المقهى العجيب

عبد الله زيادة - فلسطين


ذلك المقهى غريب جدًا.. يبدو أن كل روّاده مختلفين في كل شيء.. حتى في طلباتهم.. لا أحد يشبه الآخر ولو من باب الصدّفة.. أحدهم يناقش الآخر في ديانته.. وآخر يتوسع في مدح أفكاره الذاتية.. وآخر يبدع في تحدي من يجالسهم حول ما يؤمن به من قيم.. قلت في نفسي ما هذه التناقضات العجيبة التي تنتشر حولي.. فجأة دخل شاب ٌ مفتول العضلات حوله جمع ٌ من الحرّاس.. سكّن الصمت المكان.. ظننت حينها أنه من رجال الأمن الخاص بالمقهى الفسيح! وإذا به فكرٌ آخر يفرض نفسه في المكان بالقوة.. لا أحد يتحدث سوى الأهازيج التي تمجده فقط.. قلت في نفسي سأجالس ذلك العجوز الذي يحاول إقناع نفسه بجرأة الحديث من تلك الزاوية البعيدة.. وإذا به يصرخ بصوت عال ٍ لذلك الرجل الغامض من تظن نفسك؟!.. أنت مجرد وهم عبثي في مخيّلة فارغة من النضج سرعان ما تختفي.. نحن في عصرنا كانت القوة تساند الضعفاء لا تسحقهم.. ترفعهم لا تقض ِ عليهم.. كان الفكر الحقيقي هو الحب الذي لا لون له.. الوفاء سبّاق الرجال للتضحية.. الصدق اللغة الوحيدة التي نتقنها دون تمثيل أو زيّف ويفهمها الجميع.. وأنتم – قاصدًا - الحضور تتنازعون كالثيران.. تحملون قناعات تعيش على الجهل..تسّفك المنطق من جوف الذاكرة.. آن لي أن أطالب بالقصاص منكم.. فالحدود أقل ما يليق بكم.. أنتم من سحق المجتمع وفتّك بالعقول وبث السمّوم في رئة ِ المخلصين..أنتم من أبّاد العادات.. وارتدى قناع العفة.. لذبح الحقيقة.. في هذا المقهى نقشت ذكرياتي.. فقد كنت أجالس رجال عصّري هنا قبل زمن.. كانت كل أحاديثنا عن الخير والطيّبة.. والبرّكة تسكن المكان.. لم تكن خلافاتنا سوى من سيساعد الآخر أكثر..كنا دوما ً نردد الدين لله والوطن للجميع...فأخذ يوبخ الحضور بوابل ٍ من النقد اللاذع.. لم يجيبه أحد.. ظن نفسه حرا ً أكثر من الحد الذي توقعه ..فأسهب في الهجاء.. فإذا بصاحب المقهى يصفعه على وجهه.. دمه ينزف بقوة على هيئة وطن كبير ..هذا الموقف المؤسف.. لم يحرك ساكنّا.. فصاحب المقهى يسترزق على خلافات هؤلاء.. ويعيش على هدير شجارهم الكبير.. إنه يعلم أن هذا المقهى الفاخر.. يكبر كل يوم الضِعف.. لكثرة الحضور الذين يتزاحمون لإثبات هويّاتهم وقناعاتهم المتوارثة من جدرانه التي تعج بالفسّاد ..كم هي جناية كبرى تلك السذاجة التي تسكنهم..ذلك العجوز كان شجاعا ً فهو يحارب  ثقافات مختلفة ..ويعلم أن ذلك المقهى الفخم كان جميلا ً في زمن ٍ بعيد ..حينما كان روّاده فقراء وفلاحين لا يملكون سوى إبتساماتهم.. وفلّاحة أرضهم فقط ..لا يملكون سوى النصيحة التي لا تقدّر بثمن..كان بمثابة بيت قديم.. على رصيف الشارع الذي لهذة اللحظة يحتفظ بنفس الذكريات على شقيّه..لكن الذي تغير هم زوّاره فقط.. جلبوا له التخلف والجهل رغم أنه غدا شاهقا ضخما.. لكن في نظري لا يساوي ضريح ذلك العجوز الذي رحل بصمت بعدما تمت إهانته ِفي نفس المقهى الذي كان يعتبره صرحا من الماضي رغم أنه لا يساوي نصف عمّره ..فكم هو مؤلم أن ترقد الأضرحة حول المقهى بسلام.. وكل الأحياء في أعماقه ذئاب.. تتنافس على ضحية الواقع ..تذبل الأوطان أحيانا ً كالورد.. حينما ترتوي حقولها بالجهل والضوضاء.. ماذا يحدث للقطار إذا إنحرفت سكة الحديد؟ ماذنب كل ركابه حينما يصبحون حطاما..هكذا الأوطان ما ذنبها أن تجلدها بلطف..يا لسخافة العبارات حينما تهرول نحو وأدّها في مقبرة ٍ من النخيل الجميل .. إن ذلك المقهى كان كذبة جميلة مغلفة بالحب والحنين..تتسلل لقلوب الأيتّام أولئك الحيّارى على شبّاك القناعة والرضا.. تسافر في الهواء الطلّق.. ثم ترقد في عقول الحمّقى.. ويتفاخرون بها على أنها أجمل لحظاتهم.. بل يحتسّون القهوة على أنها منبّه نادر.. لكنها كانت رثاءً عميقًا؛ بل عزاءً لأنفسهم خلف ضآلة الرؤيا في ضباب الثواني التي يعيشونها.. فغرقوا في وحّل ِغيبوبتهم..ولم يفيقوا أبدا..

تعليق عبر الفيس بوك