المشروع الوطني لتأهيل الخريجين الباحثين عن العمل

د. حيدر اللواتي

نعيش فترة الركود أو الانكماش الاقتصادي نتيجة انهيار أسعار النفط. لا يوجد لدينا او في دول الخليج الأخرى اقتصاد بمعناه المعروف عالميا والذي يعتمد على قِوى ذاتية وطنية للإنتاج والصناعة، لدينا المال والتدفقات المالية الناتجة من النفط وهو بدوره مصدر ناضب؛ أي أن اقتصادنا ريعي في طبيعته يعتمد أساسا على مورد واحد، وعندما تأثر هذا المورد دخلنا في مرحلة الركود الاقتصادي. من المعروف أنه في فترة الركود تلجأ الحكومات إلى اتباع سياسات تقشفية تتمحور أولوياتها حول تخفيض الإنفاق وإدارة العجوزات ومن الطبيعي أن تتراجع المشاريع الوطنية الاستراتيجية وينخفض الإنفاق على توسعة البنية التحتية وكنتيجة مباشرة تضيق فرص التوظيف في القطاع العام، وبالمقابل يعاني القطاع الخاص من خسائر وعجوزات ويلجأ أيضا إلى سياسات تقشفية ويتراجع عن توظيف الخريجين بل يبدأ في تسريح الموظفين، وإذا احتاج التوظيف فإنّه يبحث عن كفاءات أو مهارات في مجالات محدودة جدا، وكمحصلة عامة تقل فرص التوظيف وتزداد أعداد الباحثين عن العمل. عادة في فترات الركود حل مشكلة التوظيف تحتاج إلى حلين: إما تدخل حكومي لخلق وظائف وإن لم تكن هناك حاجة ملحة لهذه الوظائف أو إلزام القطاع الخاص بطرح وظائف هو غير محتاج لها وكنتيجة يزداد تكدس الموظفين في القطاعين واستنزاف الموارد المالية

بالنسبة للتوظيف فأنا أميل إلى التفاؤل، تأريخيا ازدهرت عُمان في البحر وليس في الصحراء أو البر واتوقع أن تعزز السلطنة بوصلتها الاقتصادية نحو المحيط الهندي عبر بوابة الهند ونحو آسيا الوسطى عبر بوابة إيران معتمدة على مشروعها الجيواستراتيجي في منطقة الدقم ومينائها الحيوي، وهذا الاستشراف مبني على معطيات تشير إلى (١) استمرار الأزمات وتدهور العلاقات في منطقتنا، (٢) انتقال موازين القوى العالمية ومصالحها الاقتصادية والسياسية مستقبلا إلى المحيط الهندي متزامنا مع بروز دور الهند والصين، (٣) ازدهار دول آسيا الوسطى، لذلك نتوقع أن تصبح السلطنة نقطة جذب مهمة جدا للاستثمارات الخليجية والعالمية تنشط المشاريع الوطنية الاستراتيجية ومع معافاة أسعار النفط تدريجيا نتوقع أن يستعيد الاقتصاد عافيته ومعه القطاع الخاص ونشهد ازدياد فرص التوظيف من جديد.

لا يسعني هنا أن أتكلم عن التمكين والإحلال لذا سأركز أكثر على قضية التأهيل. في الظروف الاعتيادية عندما نتكلم عن التأهيل فإننا نقصد تأهيل الموظفين في مواقع عملهم من خلال الإطار العام لمفهوم تنمية الموارد البشرية. هذا المفهوم يتمحور حول الموظف، تطوير مهاراته الشخصية والتنظيمية والإدارية والتنفيذية وتوسيع معرفته من خلال تنمية قدراته الشخصية وقابلياته المهنية والنفسية والهدف هو إكسابه مهارات وخبرات تساعده على الارتقاء في مسيرة عمله من موقع لآخر وهذا هو الإطار الكلاسيكي التقليدي لتطوير انتاجية الموظف ولتحقيق عملية الإحلال والتمكين في المؤسسات. ولكن في فترات الركود أكدت الدراسات أنّ تأهيل الباحثين الخريجين لا يقل أهمية عن تأهيل الموظف في موقع عمله.

لدينا آلاف الخريجين في تخصصات ربما كانت تتواءم مع متطلبات سوق العمل أو على الأقل تجد فرص التنافس للوظيفة متاحة في الظروف الاعتيادية ولكن في فترات الركود لا يوجد عليها طلب، وأخص بالذكر التخصصات الإنسانية والعلمية والأدبية والتربوية والزراعية وحتى بعض التخصصات الهندسية والتقنية، لذا نتساءل ما ذنب عشرات الآلاف من الخريجين الذين اختاروا هذه التخصصات قبل انهيار النفط وما مصيرهم؟ وهناك آلاف آخرين من المتوقع تخرجهم في هذه التخصصات، فهل نتركهم بدون حل؟ ستتراكم أعدادهم بالآلاف وستشكل أزمة حقيقية على مستوى الوطن لها تأثيرات سلبية مختلفة، شخصيا أتوقع أن تكون قضية تأهيل الخريجين الباحثين محورية في مجتمعنا مستقبلا سيما مع ازدياد الخريجين بالآلاف سنويا.

تقارير أكاديمية ودراسات اجتماعية وثقت سلوكيات الحكومات ومؤسسات التعليم العالي في تأهيل الخريجين الباحثين عن العمل وتزويدهم بمهارات تزيد من فرص توظيفهم في فترات الركود وكان آخرها فترة الركود الاقتصادي الذي ضرب أمريكا عام ٢٠٠٨ ثم انتشر في أوروبا وشرق آسيا وأمريكا الجنوبية. هناك شواهد كثيرة في هذه التجربة من الممكن الاستعانة بها في مساعدة الخريجين الباحثين عن العمل في مجتمعنا. ركود ٢٠٠٨ أنتج نسب طردية من الخريجين العاطلين يحملون تخصصات أصبحت غير مرغوبة في سوق العمل، جعل الآلاف منهم يتوجهون إلى الجامعات والكليات التي تخرجوا منها لدراسة تخصصات ومهارات إضافية تعيد تأهيلهم وتزيد من فرص توظيفهم، وقامت الحكومات الغربية لا سيما حكومات ألمانيا وفرنسا والدول الإسكندنافية بضخ المليارات لدعم مؤسسات التعليم العالي لتتمكن من استيعاب الخريجين العائدين من أجل التأهيل وتقديم التسهيلات المالية لهم في صورة قروض دراسية ميسرة تُدفع باقساط مريحة بعد أن يتوظف الخريج، نحن أيضا بحاجة إلى إعادة تأهيل أعداد كبيرة من الخريجين الباحثين وتمكينهم من دراسة تخصصات وكسب مهارات يحتاجها سوق العمل في فترات الركود دون أن نثقل ظهورهم بنفقات إضافية، وقد يطالب البعض الدولة أن تتحمل هذه النفقات كما تحملتها الحكومات الغربية في ركود ٢٠٠٨، ولكن هذا الحل غير واقعي بسبب تقوقع الدولة في حدود التقشف، إذن ما هو الحل؟

علينا أن نتعامل مع موضوع تأهيل الخريجين الباحثين كمشروع وطني يستحق الاهتمام والأولوية. على مدى سنوات والحكومة تدعم مؤسسات التعليم العالي الخاصة بآلاف البعثات الداخلية، كل مؤسسة تستلم مئات البعثات سنويا، ولولا هذه البعثات المضمونة لتعثرت الكثير من هذه المؤسسات وربما أغلقت أبوابها وشاهدت بنفسي تأثير هذا الدعم إيجابيا على موازنات هذه المؤسسات. وحان الوقت لترد هذه المؤسسات الجميل لمجتمعها وتعتبر دعمها لمشروع إعادة تأهيل الخريجين الباحثين على نفقتها مسؤولية وطنية، بالإضافة علينا ألا نغفل عن إشراك مؤسسات التعليم العالي الحكومية أيضا في هذا المشروع الوطني. ولدينا تجربة سابقة وناجحة في هذا المجال. ففي عام ١٩٩٨ قررت جامعة السلطان قابوس تنفيذ مشروع يتيح للراغبين من موظفي الدولة فرصة الدراسة في بعض الدبلومات التي تتواءم مع متطلبات سوق العمل ولمدة سنة كاملة، كنت حينها رئيسا لقسم علوم الحاسوب بكلية العلوم وأشرفت على تصميم وتنفيذ برنامج دبلوم في الحاسوب وتقنية المعلومات مدته سنة لغير طلبة الجامعة قمنا من خلاله بتأهيل المئات من الراغبين، لا أرى لماذا لا نستطيع تكرار التجربة في الاقسام والكليات المناسبة.

فكرة هذا المشروع الوطني لتأهيل الخريجين الباحثين بسيطة وتتلخص في الخطوات الآتية:

 تبني مجلس الوزراء هذا المشروع وقيامه بتشكيل لجنة على مستوى عال تتكون عضويتها من كلٍ من: مدير عام الجامعات والكليات الخاصة بوزارة التعليم العالي، مدير عام من وزارة الخدمة المدنية، مدير عام من وزارة القوى العاملة، مدير عام مركز القبول الموحد، وعضو من مجلس التعليم العالي، وأحد الأكاديميين المخضرمين الذين مارسوا العمل الأكاديمي تدريسا وتدريبا وإشرافا وتنفيذًا وإدارة وتخطيطًا وتصميمًا وتقييمًا للبرامج الدراسية والتأهيلية وله باع في مجال ضمان جودة مخرجات التعليم العالي ووضع الخطط الاستراتيجية وتنفيذها ومتابعتها ومراجعتها مستشارًا للجنة. وتكون رئاسة اللجنة الوطنية لوكيل وزارة التعليم العالي.

 تضع اللجنة خطة استراتيجية محددة وواقعية وليست إنشائية نظرية ومطاطة كعادة الخطط الديناصورية التي تستهدف إبراء الذمة وإلقاء الحجة وللتسويق الإعلامي ثم توضع على الرف، نريد خطة تشمل هدفا واحدا فقط وهو إعادة تأهيل الخريجين الباحثين عن العمل في الجامعات والكليات بمهارات تتواءم مع متطلبات سوق العمل في فترة الركود الاقتصادي. وأن تكون خطة المشروع قابلة للتنفيذ في ستة أشهر.

 تضع اللجنة عددا محدودا من الاستراتيجيات لتحقيق هذا الهدف ولكل استراتيجية عدد محدود من الخطوات التنفيذية مع الجداول الزمنية والجهات المسؤولة وآليات متابعتها وتقييم نتائجها.

 ينبغي أن تكون هذه الاستراتيجات الثلاثة من أهم استراتيجيات الخطة:

أ) تحديد المهارات والتخصصات المطلوبة للتأهيل.

ب) اختيار مؤسسات التعليم العالي المشاركة في هذا المشروع الوطني.

ج) تحديد عدد الخريجين المطلوب قبولهم في المؤسسات لدراسة الدبلوم لمدة سنة كاملة.

د) تنفيذ وزارة التعليم العالي لتوصيات اللجنة بالتنسيق مع المؤسسات.

تعليق عبر الفيس بوك