مدرين المكتومية
كل مشروع يبدو في بدايته بلا ملامح واضحة أو هُوية حقيقية، يبدأ بفكرة صغيرة، ثم ما تلبث أن تتعاظم الفكرة حتى تصبح هاجسا يؤرق منامنا ويشغل بالنا، ونحاول جاهدين وضع أساسه الأول ليُمكننا البناء عليه.. هكذا يبدأ كل شيء في الحياة: فكرة تتراقص من بعيد، ثم تبدأ في الاقتراب والتشكل والوضوح رويدا رويدا، حتى نمسك بها ونبدأ في التنفيذ، فنغُوص في محيط الكلمات بحثا عن مفردات تنقذنا، وكلمة تؤدي المعنى وأخرى تستفز مشاعرنا، لتذهب بنا بعيداً إلى عالم الكلمات اللامتناهي. فكلُّ كلمة تقودك إلى معنى ربما غير ذلك الذي كنت تبحث عنه، وهكذا تستمر اللعبة إلى ما لا نهاية، في بحث لا متناهي عن الكلمات والمعنى في متاهة التأويل.
الكتابة مخاضٌ صعبٌ يبدأ بالمعاناة التي تدفعك لتتقمص فيها أبطال وشخصيات روايتك، تتبنى وربما تعارض وجهات نظرهم لتحلق معهم في الأحداث والعوالم التي يعيشونها، متنقلا معهم في أزمنة وأمكنة مختلفة، فتشعر أنّك حزين لحزن أحدهم، وسعيد لانتصار الآخر، تبني بينك وبينهم جسورًا لتستطيع التفكير بما يفكرون؛ فالكاتب دائما يشعر أنّه جزء لا يتجزأ من حياة أبطاله، وربما يصبح هو البطل أيضًا بالنسبة لهم، فيرونه مُنقذهم وجسرهم على العالم الحقيقي. لكنَّ الكاتب يمتلك فقط قدرة واحدة وهي أنه يقتل من يريد، ويحقق الانتصار لمن يريد، وكأنه يتنافس مع نفسه في لعبة "شطرنج"، فيقرر النهاية بما يريده هو وحده، أو ربما كان لإرادة أبطال الرواية السطوة على ما يكتب الراوي.. الأمر الآن أصبح مُربكا بالنسبة لي، بعد أن وقعت في أسر أبطال روايتي، أو ربما بعد أن تمكنت من تحريرهم.
ما صار أكيدا، ومن التجربة الأولى لي، أن الكاتب يعيش بنوع من الازدواجية والفصام؛ لأن المستحيل يصبح واقعا، والواقع بالنسبة له يصبح مستحيلا. فحين تبدأ بالكتابة ترى الشخصيات وهي تتشكل أمامك بعطرها ومزاجها ومظهرها وطبيعتها وهواياتها، ومن الصعب أحيانا أن تخلق مسافه بينك وبين الشخصية التي لا تريد أن تسكنك، لكنها تعيشك بلحظاتها وحيويتها، فتبدأ بالتسلل إلى أحلامك لتوقظك من نومك العميق فتقفز من سريرك في منتصف الليل، وتسجل بعض الملاحظات التي ستُكمل عليها عند النقطة التي توقفت عندها، فكأنَّ الأرق الذي تعيشه يُشكل لك الأحداث، كي لا تتوقف أبدا عن استكمال ما بدأته، خاصة وأن شيزوفرينيا الكتابة تكاد تتملك كل شيء فيك.
يأتي الكاتب ليلعب الأدوار كلها، لينتصر لنفسه قبل أي أحد، وليهزم نفسه أيضا على ورق، فهو يهرب من الواقع ليدوِّن كل شيء على صفحات لا يُمكن لأحد أن يُسجل خلالها هفواته أو نكساته الحياتية. الخيال هو العالم الذي يسيطر على الكاتب، فتجده يسافر ويرحل وتحط رحاله على الكثير من المدن العظيمة والمقاهي والأماكن التي لم يزرها أحيانا في واقعه، لكنَّ خبرة أبطال روايته يهمسُون له بتجربتهم، فيسجل زياراتهم عبر خيالاته، رحلات كثيرة ومطارات أكثر، ولقاءات عابرة كلها تعيش في عالمه وحده، وأنا كأي شخص تأتي إليه فكرة على شكل رجل وامرأة وقصة حب ملتهبة، فيبدأ هاجس في داخلي يقول: "اكتبيها.. اكتبيها، فهي تستحق أن تُخلد"، وفعلا تمخَّض عن ذلك ميلاد الفكرة التي أسميتها "انهيار"؛ ذلك الانهيار الذي صنعته في لحظة توقفت فيها الحياة عن كل شيء سوى نبض الكلمات.
"أكتب إليك، وأنا امرأة متزوجة من رجل يُحبني وأحبه، وأنتظر أن يرزقني الله منه بأطفال؛ لذلك أتمنى أن تركز في سطور وكلمات الرسالة جيدًا، وتحفظها عن ظهر قلب.. عزيزي، يا ذاك الرجل الذي رسمته على ورق، وقتلته أيضا على ورق، لم تعد بالنسبة لي سوى رجل مر في حياتي لأتعلم منه الكثير، خاصة في الكيفية التي أحافظ فيها على الحقيقة في حياتي، تلك الحقيقة التي لم أجدها معك، تلك الساعات والأيام التي عشتها معك، كانت الساعة تنزف دقائقها وثوانيها ألمًا على ما سيحل بي بسببك".
هذه الفقرة عندما أنهيتُ الرواية، وعُدت أقرأها شعرتُ أنني أستكشف أشياء أشعر بها للمرة الأولى، لم أعرف هل كتبت أناملي أم أملَى عقلي وشعوري إحساسًا آخر يأتي من بعيد، يجمع بين طياته كل عذابات الحكايات التي أسمعتني إياها صديقاتي كلمة من كل روح وتعبير من كل تجربة. كل المفردات أتتني هكذا من البعيد القريب من داخلي وذاكرتي وقلبي لتصنع من نفسها حكاية تتدفق بلا تحفيز أحيانا، وبمخاض عسر أحايين أخرى.
رُبما يبدو أنّ الكاتب ليس له الحق في الحكم على ما يكتُب، لكنني الآن أعرف أنَّ الإنتاجَ الأدبي بالذات أرقى من أي تجربة ذهنية أخرى، هو ذلك الخلق -والله أحسن الخالقين- الذي يتناول مشاعر وشخصيات وأحداثا تعيش من العدم، وتتحدث عبر الحروف والكلمات لمن لا تعرفهم ولا يعرفونها.. وأحيانا يكون أشبه بمخرج يتوارى خلف ستارة المسرح، يحرّك شخصياته بخيطان رفيعة غير مرئيّة.
أتمنى أن تطول حياة شخصيات روايتي، كما عاشت معي شخصيات كثير من الروايات سابقاً.
madreen@alroya.info