محمد بن رضا اللواتي
"مينو" ذلك الثري صاحب العديد من الخدم، والذي ابتكر "أفلاطون" حوارًا معه على لسان أستاذه "سقراط" يحاول فيه شرح موضوع المعرفة، فيختار "سقراط" خادمًا من خدمه ليحاوره لكي يبرهن "لمينو" أنّ ثمة معرفة كامنة في قلوبنا وليس علينا سوى إيقاظها وإثارتها مجددا.
وفعلا، يدخل "سقراط" في حوار مع الغلام ليثبت "لمينو" كيف أنّ الفتى استطاع أن يحل مسائل هندسية معقدة، وهكذا فالتعليم ليس مستحيلا، والتلقين لن يجدي، بل إثارة العقل ودفعه نحو التفكير والاستذكار مفتاح لإنتاج المعرفة.
وسوف نعرض الآن على القارئ العزيز حوارًا جرى في العالم الافتراضي، يحاول فيه "سقراط" أن يستشف آفة الأمم وأسباب عدم عدم تقدمها، يشاركه فيه "مينو"، هذا بعد أن تبلج لهم ثقب في حائط الزمن فيمرقان منه إلى وجهة يستطيعان فيها متابعة عملية نقل المعرفة، وإذا بهما يقعان في صحراء "مرمول" ليشهدا تجارب "المنتدى النمساوي" لمحاكاة العيش في الفضاء، ويلتقيا بطلبة مدارس جاؤوا يزورون زملاء لهم يشاركون المنتدى في تجاربه تلك. وبعد محادثة ممتعة معهم، يقول "سقراط" "لمينو":
- هل لاحظت يا "مينو" أنّ ذلك الفتى رغم كونه في الصف الخامس إلا أنّه كان يتحدث معنا بطلاقة باللغة الإنجليزية، وبالكاد كان يتلعثم، في حين أن رفيقه الذي هو في الصف الثامن لم يكن يستطيع تركيب جملة قصيرة واحدة بالإنجليزية؟
- نعم يا "سقراط" فقد لاحظتُ ذلك، تُرى إلى ماذا يعزو هذا الأمر؟
فيوجه "سقراط" أمرًا للغلام ويطلب منه أن يذهب ويتحقق منهما، فينطلق الغلام ليعود بعد دقائق ويقول:
- إنّ الصغير المتحدث بطلاقة تحصيله العلمي في مدرسة "خاصة"، بينما يقول الولد ذو الصف الثامن أنّه يدرس في مدرسة "عامة"!
- هل اتضح لك السبب في هذا الفارق من الاستيعاب الآن يا "مينو"؟
- بلى يا "سقراط". إنه جلي واضح. إنّ المدرسة الخاصة تمتلك مناهج تعليمية عالية المستوى مكنت ذلك الصغير من التفوق، في حين تفتقر المدارس العامة هذا التطور، حتى غدا الولد الأكبر سنا، أقل معرفة عمّن يصغره بثلاث سنوات!
- وما الذي استنتجته يا "مينو" فيما نحن بصدده من موضوع المعرفة؟
- استنتجتُ أنّ العمر لا يكون حائلا يحول دون التعلم. أتراني مُحق في استنتاجي هذا يا "سقراط"؟
- هذا استنتاج رائع، وماذا أيضا؟
- اسنتتجتُ يا "سقراط" أنّ خريج المدارس العامة لن يكون مستعدا لتلقي المعارف العميقة في الجامعة ما لم يقوموا بتأهيله حتى يتمكن من الانخراط في التحصيل العالي المستوى.
- أحسنت يا "مينو". إنّ حكومته التي ابتعثته ستصرف عليه قدرا آخر من المبالغ لكي يتأهل تماما للدراسة، في حين كان بإمكانها أن تتجنب ذلك إن طورت مناهجها منذ الوهلة الأولى في المدارس التي تدعمها.
- اسمحا لي باستنتاج أيضا...
- تكلم أيها الغلام..
- كفاءة طلبة المدارس العامة في سوق العمل والإنتاج وتحمل الأعباء لن تضاهي كفاءة طلبة المدارس الخاصة.
- هذا استنتاج رائع جدا أيّها الغلام! فإن قلتُ لك إن ذلك يعني أنّ العملية التعليمية قد تتحول في ذلك البلد "معضلة" يوما ما، فإلى ماذا تعزو قولي؟ وأنت أيضا يا "مينو" هل لك تفسر لي قولي هذا ما مستنده؟
- إنّه يبدو لي جليا يا "سقراط" أنّ الدراسة التي اعتمدت مناهج ضعيفة لا تتواكب مع التقدم العلمي الهائل في هذا العصر ستبدو معالمها جلية في المنتج الذي ستصدره.
- هذا صحيح.
- أداء الحكومة المستقبيلة بعناصر غير متمرسة في تجارب تعليمية متقنة لن يكون بمستوى الطموح.
- يراودني سؤال وددت أن أطرحه على ذلك الفتى ذي الصف الثامن، هل أذهب وأطرحه عليه يا "سقراط"؟
- بلى افعل يا "مينو"!
يذهب "مينو" فيسأل:
- لم لا تنتقل إلى المدرسة الخاصة أيّها الفتى حتى تكون كصديقك في مستواه التعليمي؟
يسكت الفتى ولا يحير جوابا لسؤال "مينو"...
فيجيبه الفتى الأصغر ذو الصف الخامس..
- ليس بوسعه ذلك يا سيدي!
- لم؟
لأن المدارس الخاصة لا تستقبل طلبة المدارس العامة بعد مُضي عدة سنوات من تحصيلهم العلمي فيها!
- آه فهمت! لأنّهم حينها لن يتمكنوا من مواكبة المستوى العالي الذي لم يألفوه. أليس كذلك؟
- بلى يا سيدي! هذا إذا كان والد صديقي متمكنا اقتصاديا ويستطيع تحمل أجرة التعليم الخاص، لأنّ هذا أيضا حائل يمنع انتقال العديد من الأطفال إلى المدارس الخاصة في أولى سني دراستهم.. دعني أوضح ذلك لك:
يدرس الطالب في المدارس العامة الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات باللغة العربية، لأنّ تدني مستوى تدريس اللغة الإنجليزية بلغ به الحد الذي لا يسمح لأن يتم تعليم هذه المواد بها، والنتيجة هي أنّ طلبة المدارس العامة من الصفوف المتقدمة لا تقبل العديد من المدارس الخاصة تسجيلهم لديها بداعي العجز في الفهم!
يرجع "مينو" إلى "سقراط" ويحكي له عن الحوار الذي دار فيقول "سقراط" وهو يؤشر بإصبعه إلى الفتى ذو الصف الثامن:
- هل تتفقان معي أنّ الفتى ذو المستوى الضحل في التعليم إن ظلّ مستواه على حاله حتى بعد تخرجه، لن يجد عملا يعود عليه بمردود مالي كبير، ومعنى هذا أنّ مستواه المعيشي سيكون متدنيا، ولن يسعفه المردود المالي لاختيار مدارس عالية التكلفة لأولاده، ومؤدى هذا استمرار أولاده في تحصيل تعليم بذات المستوى، أتتفقان معي في ذلك؟
- أتفق يا "سقراط" وأتعجب كيف أنّ عملية "نقل المعرفة" تتحكم في مصير الأمم!
- بلى يا "مينو". كنتُ أقول لجار لي إن كانت لك بقرتان هل كنت تنفق مالا عليهما حتى تتقنان الجري في الحرث؟ فقال نعم يا "سقراط" كنتُ لأفعل ذلك، فقلت له ولكن في بيتك طفلان أليسا هما جديران بإنفاق منك أكثر حتى يتعلما؟ قال لي نعم يا "سقراط" وسوف أجلب لهما سفسطائيا متمكنا ليعلمهما.
لن تسمو الأمم إلا بالعلم يا "مينو". لنعد الآن عبر ثقب الزمن إلى حيث كنا فأثينا تتطلب عملا شاقا لتصليح التعليم في مدارسها.
وبينما هم يعبرون من الثقب، سمع الولدان اللذان كان يسألهما "مينو"، سمعا سؤالا يطرحه "مينو" على "سقراط"..
- ألا ترى يا "سقراط" لو أنّ كل مدرسة عالية المستوى في التعليم تمّ إسناد مهمة إدارة أربعة من المدارس العامة إليها، على أن تعمل تدريجيا في تطويرها، وما تنفقه الجهات الرسمية على تلك المدارس الأربعة سنويا، تمنحه للمدرسة التي تتولى تطوير تلك المدارس الأربعة، ألا ترى أن هذا قد يجدي لأجل الأخذ بزمام التطوير في عملية نقل المعرفة؟
أغلق الثقب!
لم يتمكن الولدان من سماع تعليق "سقراط" حول النقطة التي أثارها "مينو".