قتلوا عِرَاقيتكَ، وعادتْ لنا الهُوية

مسافر دخيل - العراق


(1)
نحن نتأخر كثيراً حينما نريد دفن الموتى
العظام التي رسخت في الطرق الترابية
تسبب لنا إعاقات كثيرة
لهذا السبب بالذات قررنا أن ندفنهم في حدائقنا المنزلية بدلاً من الورود

(2)
الأطفال يركضون وراءَ سيارة الإسعاف
كل واحد منهم يعتقد بأن السيارة تحمل جثة أبيهِ

(3)
نحن الشنكاليون نزرع الورود في باحة منازلنا و نحصد عبوات ناسفة

(4)
عثروا على جثتكَ أول البارحة بالقربِ من غاباتِ الموصل
ما تبقى من جسدكَ كانتْ عظمةً صغيرة
وحزام الظهر وجنسيتكَ العراقية
الآن لم يبقْ شيء كي نتأكد أكثر بأن هذا الجسد يعود لك أم لا ؟
قبل ثلاث سنوات كنت جسداً كاملاً لم ينقصهُ شيء سوى ملامحَ وجهكَ أو ابتسامة عريضة وأنت تضحكَ في أولِ سنةٍ بعد قبولكَ في إحدى الجامعات
في السابقِ لم تكن تفكرُ بأن الحربُ ستخلفُ موتكَ وراءها
كل هذه السنين المتعبة تركناها وكنا نعتقدُ بأنكَ لا تستسلم للموتِ بهذهِ السهولة
ربما لم تمتْ!
طرقُ الذبح ِ كانت تأخدُ أدوراها على رأسكَ المنحني للأرض ِ
الرصاصةُ كانت في لحظةِ فرحٍ
الزنادُ كان يرقصُ تحتَ أصابعَ جندي يطمعُ بخلقِ المزيد من بقعِ الدمِ على قميصكَ الذي تبقى منكَ
كل صوركَ التي علقناها على أعمدةِ الكهرباءِ
قمنا بإزالتها
سمعنا بأنكَ عدتْ
عادَ أسمكَ
عادَ قميصكَ
عادَ هيكلكَ لكنهُ ليس بالكامل
قتلوا عراقيتكَ، وعادتْ لنا الهويةُ
كيف لنا أن ندفنُ جثةً غير مكتملة
أصابعكَ ناقصة
وخاتمُ الخطوبةِ وحده لا يكفي أن نحفرُ لهُ قبراً !

(5)
التوابيت التي صنعت مؤخراً
كانت ضيقة جداً
ضيقة بدرجة كبيرة حيثُ لا تتسع لعائلة واحدة

(6)
كنّا صغاراً ونقطع رؤوس أقلامنا بالسكاكين
ومن حينها
كلما أحمل قلم رصاص
فقط أكتبُ " الله وأكبر"
وثم َ أقطعُ رأس القلم

(7)
قبل أن يذهب إلى الحرب
كان َيحدق كثيراً إلى الجدار
كأنه يريد أن يجد زاوية مناسبة
ليعلِّقوا بها صورته

(8)
يسأل أخيه الصغير:
لماذا لا نتقاسم الرصيف ؟
جانبٌ لك َ وجانبٌ ليّ
نبيع المناديل في كلا الطرفين
لكي لا يُحرَم أي طرف من دموعنا

(9)
نتأكد في كل يوم بأن الموت أصبح أسهل مما يكون
نرى في كل مرة شريط الأخبار يتسع على الشاشة أكثر،
في رأس كل ساعة تخبرنا مذيعة الأخبار بصوت ناعم  بأن هناك أنفجار أو العثور على مقبرة جماعية وهذا ما لم يدهشنا نحن العراقيين مثل هكذا أخبار
بكل ببساطة ندير وجوهنا من التلفاز ونجتمع على السُفرة ونأكل الطائفية معاً

" الساعة التاسعة بتوقيت بغداد "
ترددها في كل ليلة
مذيعة رشيقة ترتدي فستاناً فوق الركبة
انفجار سيارة مفخخة بالقرب من المدرسة الابتدائية في حي شعبي
 مما أدى إلى مقتل وجرح أكثر من مئة شخص من بينهم أطفال صغار
اعتيادي جداً !!
هكذا نحن العراقيين
نخرج من البيت في الساعة الثامنة صباحاً
ونرى موتنا بخطٍ عريض على أخبار العاجلة في التاسعة مساءً

(10)
وضعوه في صندوق خشبي مغطى عليه راية كُردستان
الراية التي نلبسها بمثابة كفن مبلل بالدم
هكذا يكون الموت أكثر جمالاً حينما نغطي أمواتنا بقماش يعني لنا القتل الملون
هذا ما يقرره السيد الرئيس قبل قتله في برهةٍ

(11)
كان صغيرًا
لم يعرف شيئا عن الموت
حينما دفنوا أباه
ظنّ أنهم زرعوه في الأرض
  أصبحَ في كل يوم يزور المقبرة
ويسقي قبره بالدموع
و يردد " اخرج يا أبي قد جاء الربيع "

(12)
متى نلتقي؟
عبارةٌ تركها الحذاء على الرصيف قبل عامين ونصف ، ..

الرصيف حزين جداً
أقدام المارين لم تعد تلمسهُ
متى نلتقي؟
مكتوب بخطٍ عريض على جدار في بيت مهدوم فارغ بالقرب من شنگال

الجدران حزينة جداً
الصور المفروشة على الأرض حزينة
و أنا حزين
لا أستطيع أن ألمسَ الرصيف
ولا أُلملم الصور من تحت ألجدار

(13)
كَبرتُ يا أمي
لم أعد أسقط أمام باب المنزل،
المنزل أصبحَ يسقط عليَّ

(14)
ونحن نخرج من قرانا القديمة
ترّد علينا الصور المزخرفة بخطوط سوداء مائلة،  
لا تغلقوا النوافذ والأبواب
نريد أن نتنفس
لا نريد أن نموت مرتين

(15)
3 اغسطس 2014
مثلُ سلعةٍ رخيصةٍ تباعُ في مؤخرةِ سيارةٍ عَتيقةٍ تَتجولُ في أحياءِ الموصلَ القديمة
كانتْ تُباعُ بطريقةٍ كهذهِ تماماً
يَداها كانتْ مَربوطتانِ من الخلفِ وهي تَمضعُ دُموعها خلفَ ستائرَ سوداء،
رجالُ القريةِ جَمعوهم في ساحةِ المدرسةِ و وزعوهم على الصفوفِ كتلاميذٍ جُدُد في أيامهم الأولى من الدوام،
طريقةُ الذبحِ كانتْ تُشبه لُعبةً شَعبيةً
مثلُ الأطفالِ الذينَ أرهقتهُم الكرةُ وهم يَركضونَ صَوبها
هكذا كانوا يركلونَ بِرؤوسِهم بطريقةٍ بَشعةٍ جداً
//
(دولة الإسلام باقية)
كانتْ عالقةً في صندوقِ سيارةٍ عسكريةٍ مُرّقطة
أتذكرُ حينما قَاموا بذبحِ جَميع الّذينَ رفضوا اعتناقَ الأسلامِ و رموهم في حُفراتٍ واسعةٍ خلفَ القرية،
ثلاثُ سنواتٍ ليستْ كافيةً كي أنسى بأني عانقتُ الإسلام مُجرد أنّي أقنعتهم بعبارات وآيات (أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهدُ أن محمداً رسولُ الله)

(16)
الأشجار اليابسة بيوت الأطفال في المستقبل.
الفقراء، أقدامهم تشبع من تقبيل الأرض.

النازح كلمة مشتقة من الجوع .

أرصفة ألوطن مصابة باللوكيميا، في كل يوم تحتاج إلى كمية من الدم

الأراجيح في الحديقة فارغة من الأطفال، والسيارة المفخخة تكره الهدوء

(17)
يدك المقطوعة التي تلوح لي في صندوق السيارة
تخبرني بأنك في الطريق إلى مقبرة جماعية
ولكن هي لم تخبرني عن مكانك المحدد
قالت لي: إنك فقدت جميعها
ولا تستطيع أن تكتب لي عنوان المقبرة بالكامل
ولأنني لا أجيد لغة الأرقام
أصبحت آكل  كل يوم أحد أصابعي
وعندما اكتشفت بأنني فقدت جميع أصابع يدي
أدركت حينها أنك  في المقبرة رقم عشرة

(18)
بحثتُ عنكَ ذات مرة
قبل أن تلتوي روحك على هيئةِ حبلِ غسيلٍ في أطراف البحرِ
قبل أن يلتهمُكَ "خابور" بلهفةٍ شديدةٍ
كيف تجرُ أنفاسكَ الأخيرةِ وأنت منبسطٌ في مكرِ الموتِ مثل شجرةٍ أسقطتها الرياحُ .
مثل ناي حزين، مثل صرخة طفل أعمى، حاولت الإمساك بكَ قبل أن تتعثر بمخالبِ الموتِ
آه ..  ماذا لو كان البحرُ رشفةَ ماءٍ
لو لم يشربُكَ النهرُ  
لو لم يتحولُ النهرُ إلى بِركةِ دموعٍ باردةٍ ؟
_
أنتَ تغرقُ و أنا أغوصُ في الدموعِ

تعليق عبر الفيس بوك