خطيب الذي حصد حقول اللغة

غادة سعيد – ناقدة وأكاديمية - سوريا


صدقا، لا أعرف لماذا استوقفني هذا النص القصير للأديب الكبير الذائع الصيت في سوريا وخارجها الأستاذ المخضرم أحمد كامل خطيب.. هل هي الأشكال التعبيرية لصياغة واقع، بوسائل مجازية، تُعبِّر عن إحساسي بالغربة وأنا الواقفة في الجهة المقابلة لطرطوس عروسة ساحل سوريا الصامدة؟!.. وهو الذي يبعث أشواقه مع نسيم ورذاذ البحر لقلبه، حين يعبر:
لا تقنصونه بالعيون الزائفة..
حبي لا يزحف
لا يلهث ولا يتأفف
ليس مغرما بالطيران..
بعيني الضاحكتين
رصدته يغوص عميقا
غير مكترث
بتصفيق الأمواج الثرثارة
قبالة الشواطئ المنارة
من المغرب
حتى طرطوس
ذهابا وإيابا
دونما توقف..
هل قرأ هذا العملاق في عالم الأدب نفسيتي المنهكة والمتشتتة بين المغرب وطرطوس؟ هل تحول من شاعر إلى مفسر أحلامي..؟
من خلال هذا النص القصير، وهو الثرثار كتابة، وعلى غير عادته، عمد من خلال الحلم إلى "تلطيف" الرغبة، ومن ثم، عمل أساليب التهوين على تعديل الرغبة وجعلها متوافقة مع واقعي.. ومع نفسيتي التي حرضتني على القلم لأُعبّر عن مكنونها المختفي بين ثنايا الشوق وجيوب الحنين إلى طرطوس البحر..
فعلا، تخلق الأحلام كثافة لغوية ومجازات تأتي كبديل للغة المباشرة التي تُبلِّغِ الحكي والمراد فقط.. وبلسان طبيب نفسي، من قامة الأديب احمد كامل الخطيب.. ولذا نشهد أساليب مختلفة ودورانا على مستوى اللغة..
إن اللغة، من خلال النص، تعتبر وسيلة ترهين وإعادة بناء الألفاظ والبنية الدلالية بصفة عامة، ولكنها أيضا وسيلة لتفكيك العلاقات العتيقة بين الألفاظ واستبدالها بعلاقات جديدة، ويعمل النص على نقل النظام اللغوي من حالته السكونية/المعيارية إلى حالته الاستعمالية/الحركية.
إن هذه العملية المزدوجة (البناء/التفكيك) تعبر عن خاصية أساسية من خصائص اللغة واجتماعيتها وتاريخيتها..
فاللغة تؤدي وظيفة أخرى من خلال بناء الحلم، ذلك، أن الحلم لغة أخرى تصنعها الكتابة، ونعرف، من خلال بوح الشاعر، كيف تستثير الرغبة من خلال الحلم ليقول:
لا تقنصوه بالعيون الزائفة
حبي لا يزحف
لا يلهث ولا يتأفف
ليس مغرما بالطيران..
هنا.. ربما لا أتفق معه.. فحبه يحب السباحة إلى المغرب الحارس على المحيط كمنارة لبحيرة البحر الأبيض التي أعشق كوني الجاثمة على ضفافها.. فحبي الطائر  مثلا ويطير  كطقس يومي عبر النسيم إلى طرطوس الأبية..!
من خلال هذا المقطع/النص القصير نقف أمام معجم لغوي وقاموس من التحليل النفسي والواقعي لصوت خارجي/ داخلي يسمع الآخر، ويؤثت اللغة بعدا موسيقيا يحاكي اللغة الشعرية على إيقاع نفخات نفسية..
فهو ينزلق في الحديث عن رغبته/ورغبتي إلى موضوع من خلال التحايل على اللغة إذ يقول:
غير مكترث
بتصفيق الأمواج الثائرة
قبالة الشواطى المنارة
من المغرب
حتى طرطوس
ذهابا وايابا
دونما توقف..
استعمل حرف أو كلمة (حتى) بدل كلمة أو حرف (إلى) ليترك المجال رحبا واسعا لعودة للمكان/الزمن دون تأشيرة البعد وعسس الحدود..
هذا الوصف يخلق بعدا من التأرجح بين لغة تؤكد، ولغة تنفي ذلك التأكيد. والكتابة هنا، حين لا تصل إلى موضوع الرغبة، تخلق معجما لغويا يتكثف ولا ينتهي. ويتوتر الحكي حين لا يمتلك الجسد/القلب والعينين.. فبذلك لا يريد لأحد أن يتلصص له عن الرغبة والحميمية.. فالتواصل مع الجسد هو موضوع رغبة وحميمية خاصة.. له/لي..
النص باعتباره  فضاءً لتفكيك وإعادة بناء العلاقات اللغوية، فإنه حسب "رولان بارت": فضاء اللذة والرغبة الناجمة عن هذه العملية المزدوجة أي الاشتغال على اللغة وأشكالها لأنه يخلخل تركيبها ويعيد صياغة بنيتها ليتجاوز بذلك "الثقافة التقليدية للدال".
لأن النص في الواقع لا يخلق دلالات جديدة فحسب ولكنه أيضا يخلق دوال جديدة. وهذا التفكيك للعلاقات اللغوية لا يكون له معنى إلا إذا نمَّ عن وعي وكان الشاعر أو الكاتب على دارية بالاستعمالات السابقة للدوال والعلاقات التي يمكن رصدها فيما بينها. وهذه ليست بمهمة يسيرة إلا من متمكن من حصد حقول اللغة كالأديب الشاعر أحمد كامل الخطيب الذي أعانته تجربته الطويلة و تمرسه على بناء خطاب جديد من خلال تراكيب لغوية وبنية جديدة ولم يسقط في التكرار او أعاد انتاج خطابات سابقة..
خصوصية النص شددت على أصالة كاتبه من خلال إعطاء بنية خاصة للنص وتركيب محكم ومخصوص للغته لكي يستطيع أن يعبر عن رؤيته ويلامس رؤية أي قارئ كان محترفا أو هاويا، نظرا لتعامله مع اللغة والعالم، لأن النص هو تعامل مع لغة القوم أولا ثم تعامل مع واقعه ومحيطه بكيفيات محددة.
هذه الفكرة يمكن ربطها بفكرة "روح العصر الرقمي" أو الحساسية الاجتماعية والتي تتطلب نصا يتماشى مع حاجياتها ومتطاباتها. أي أن تتحرك لغة النص داخل إطار تاريخي مخصوص وهكذا فإن تفكيك العلاقات اللغوية لا يعمل على تحجيم معنى أو إلغائه ولكنه تحيين وترهين له أي إيجاد لغة شعرية جديدة للكتابة..
وهذا ما نجح فيه الرائع المخضرم الأستاذ الأديب أحمد كامل الخطيب من خلال نصه القصير.. جدا..
رغم قصر هذا المقطع/النص، فعلا، يحتاج لساعات من الكتابة عليه وأوراق كثيرة بيضاء لأعبر عن مكنوني كاملا.. حين أنتحل نفسيتي وأعبر عنها..
وبصدق لافت..
شكرا لك أيها الرائع .. شكرا لك رغم أنك أبكيتني وأنا أخط هاته الحروف.. وأتذكر مرغمة كل شبر من طرطوس.. بهواء ونسيم مغربي..
يا ليتك تكون الآن بقربي.. وتتحسس وتشعر بالأمر .. كأسمري..
لك الصحة والعمر المديد والفرح بكل تلاوينه أنت وعائلتك الكريمة... ولساكنة طرطوس والسوريين أجمعين أينما كانوا... كل التقدير و الاحترام.. لشخصك أستاذي الجليل..
**
المراجع:
نص قصير للأديب: أحمد كامل الخطيب، نشره على جداره الفيسبوكي بتاريخ: 11/02/2018
Roland Barths: "le plaisair du texte" page 16..

تعليق عبر الفيس بوك