الابتكار أولاً

حاتم الطائي

≥ هناك توجُّه حقيقيّ يُترجمه اهتمامٌ سامٍ ومساعٍ حكومية جادة لإطلاق عنان الإبداع واستثمار الإمكانات

≥ إستراتيجية عُمان الرقمية تُعزِّز الإطار التنظيمي للقطاعات ذات القيمة المضافة

≥ "التنمية بالابتكار".. موجِّه استوعبت السلطنة ضرورته من أجل انتقال سلس نحو "اقتصاد المعرفة"

أذكُر قبلَ حوالي سبع سنوات، وأنا أُتابع إعادة لإحدى حلقات البرنامج التليفزيوني "The Look for Less"، الذي يقدمه الكندي ديفيد بروكس، استوقفني تعليق له حول جُذور ما أسماه "الابتكار العظيم"، وتأكيده على أن هذه الجذور لا تكمُن في التكنولوجيا بحد ذاتها، بل تتجلى دائماً في السياق الأوسع، وتتطلّب رؤى ومهارات وآليات جديدة، مُستشهدًا بتأصيلٍ للعالِم آينشتاين يوضِّح أن المشاكل التي يُواجهها الإنسان لا يُمكن حلّها بالطرق التقليدية، التي كانت عليها قبل حدوثها.. ومن وجهة نظري، أنَّ تبسيط ذلك فيما يتعلق باقتصاديات الدول يعني: أنَّ عملية التوجُّه لبناء عناقيد اقتصادية مستدامة (وليس صناعية فحسب) لن تكون مُمكِنة إلا إذ تمَّت قولبتها في قوالب أو أُطر تحفِّز على "الابتكار المتجدِّد"، بمُسرِّعات إنمائية تستهدف إيجاد بِنَاء اقتصادي معرفي مُتطوِّر على الدوام، يُحقِّق للدولة (أي دولة) مكانة تنافسية مُتقدمة عالميا.

ما ذهب إليه بروكس، طرحَه بشكل أكثر واقعية وعملية معالي الدكتور علي بن مسعود السنيدي وزير التجارة والصناعة، خلال زيارته الأسبوع الماضي لـ"الرؤية"، لتدشين "منظومة الرؤية للإعلام الجديد" -في زيارة مُقدَّرةٍ، كان لها جميل الأثر على فريق عمل "الرُّؤية"، نظير دعم معاليه المتواصل وغير المحدود- بتأكيده الواضح على أن أية خطة حكومية لدعم الابتكار لابد أن لا تتوقف عند إطلاق الشعارات، بل هي بالأساس التزامٌ وتنفيذٌ لبرامج ومشروعات مختلفة تضمن تمكين الابتكار، ووضعه في غرفة قيادة الاقتصاد.

وهي نقطة مهمة جدًّا، كانت بالنسبة لنا تأكيدًا على الدافعية التنموية التي يملُكها الابتكار -كمصدر للقوة المحرِّكة للنمو- واحتكامها ابتداءً للإرادة السياسية المؤمنة بالدور الطليعي للابتكار في هيكلة الاقتصاد، وزيادة الإنتاج، وتوفير فرص عمل جديدة، وتحسين السياسات المحفِّزة، أو بصورة أدق تشكيل وضع "عميق الاندماج" بين التنمية والابتكار.. وهو موجِّه لبَّت ضروراته واستوعبت أهميته جهود حكومتنا الرشيدة بقيادة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- ليس فقط بهدف تحقيق مراكز مُتقدِّمة في التقارير الدولية، بل بمساعٍ تتكاتف وتتآزر من أجل ضمان انتقال سلس من اقتصاد ريعي قائم على مادة ناضبة، إلى اقتصاد جديد أساسه المعرفة والابتكار والبحث والتطوير، بإستراتيجية عُمان الرقمية، المعتمدة على ضوابط تنفيذ التحول للحكومة الإلكترونية، وفق ضوابط ومعايير ومراحل زمنية محددة، تُعزِّز الإطار التنظيمي للقطاعات ذات القيمة المضافة العالية؛ وتدعم خُطى تطوُّر بيئة الأعمال، وجاذبية بيئة الاستثمار.

صحيح أننا ما زالنا في بداية الطريق، إلا أنَّ هناك توجُّها حقيقيًّا يُترجمه اهتمامٌ سامٍ ومساعٍ حكومية جادة لإطلاق عنان الإبداع واستثمار الإمكانات، للوصول إلى اقتصاد تنموي مستدام قادر على إثبات نفسه على خارطة العالم.. فمن نجاحات برنامج "استثمر بسهولة"، والطموحات التي تتعاظم في الصندوق العماني للتكنولوجيا، وما بينهما من برامج وجهود ومُمكِّنات وحواضن، يُمكنني أن أؤكد على أن العمل الوطني في السلطنة لترسيخ مبدأ الابتكار -كنهج مجتمعي إنمائي- لم يعُد اليوم بتلك الصعوبة التي كانت عالقة من قبل في الأذهان؛ لتنزاح الكرة قليلًا عن خط المنتصف، فارضة وضعاً جديدًا يستدعي تحديثًا مستمرًا وطموحًا للخطط والتوجُّهات، يضمن وصولًا أسرع لمحطات أكثر ارتباطا مع العالم.

ولا شك أن تحقيق هذا الطَّيْف الواسع من الأهداف، والقيام بهذا القدر من المهام والاختصاصات التي تمس صُلب موضوع الابتكار، يحتاج توفير مزيد من الآليات الملائمة، وبلورة وعي مجتمعي مُدرِك بخصوصه، تتكامل فيه كافة الأدوار، ضمن نهج تضافر الجهود كعنوان رئيسي للمرحلة؛ ومن هذه الآليات:

- توفير بيئة مؤسسية وتشريعات محفزة على دعم حاضنات الابتكار، والتركيز على البحث والتطوير، وإيجاد بنية تكنولوجية تحتية تدعم وتحفز الابتكار في كافة القطاعات.

- التعاون بين وزارة القوى العاملة والخدمة المدنية: عبر رفع مستوى التنسيق لأعلى مستوى؛ بهدف دمج وتوظيف وتمكين الكوادر الشابة المبتكرة والمبدعة في نسيج الحياة الاقتصادية والعلمية والاجتماعية.

- تطوير شامل ومستمر لمنظومة التعليم، بشقيه المدرسي والجامعي، من خلال إبراز المعرفة كأهم مصادر القوَّة الاقتصادية، فالتغيرات التكنولوجية المُتسارعة، ألقت بظلالِها على المفهوم الكلاسيكي لطرائق التعلم ووسائله.. إننا نطمح لعملية تعليمية تكون مخرجاتها قادرة على الإنتاجيّة والفاعلية لتحقيق أهداف التنمية عبر الابتكار، ومواجهة التغيّرات المتسارعة في عالم اليوم، فرأس المال البشري هو قمَّة الهرم في عصر اقتصاد المعلومات.

- مجلس البحث العلمي مدعوُّ لتسريع تفعيل الإستراتيجية الوطنية للابتكار، وتحقيق الأرقام المستهدفة حسب الخطة المعلنة، ومتابعة تطويرها، وعمل مراجعات وإضافات دورية عليها، واستقاء الجديد من التجارب العالمية ومناقشة أصحاب المعارف للتزوُّد بأفضل ما وصلوا إليه؛ كمكونات تضمن صناعة المستقبل، وتوجِد بدائل كفيلة لاستكمال الخُطى على المسار.

- بنك التنمية العُماني: من خلال استحداث إدارة خاصة تُعْنَى بالعلوم والتكنولوجيا والابتكار؛ تُسهم في دعم المشاريع الريادية الجديدة.

- غرفة تجارة وصناعة عُمان: توجُّه طيب للغرفة بتبني جائزة للابتكار، بيد أنَّنا ننتظر من المجلس الجديد دورًا أكبر لمؤسسة لها ثقل اقتصادي واجتماعي، لتحفيز الابتكار ونشر ثقافته في السلطنة، وتشجيع الباحثين والمبتكرين المتميزين على إبراز أنشطتهم الابتكارية والبحثية في شتى المجالات.

- القطاع الخاص: مسؤوليته الاجتماعية تفرض عليه مزيدًا من دفع مسيرة الابتكار، وتبني التقنيات الجديدة، وإنشاء وحدات داخل المؤسسات/الشركات تختص بوضع التصورات وتنفيذها على أرض الواقع؛ حيث إن القطاع الحكومي بمفرده لا يُمكن أن يحقق العلامة الكاملة لـ"الابتكار"، إلا من خلال الاستعانة بخبرات القطاع الخاص، واستخدام البحوث العلمية، والتعاون مع مراكز الدراسات لتحديد الاحتياجات المحلية وتحويلها إلى فرص عالية لتحقيق أهداف التنمية.

- المجتمع المدني: أحد أضلاع مثلث الشراكة، وركن أساسي في دائرة المعالجة، والضمانة الأساسية لتحقيق المنفعة العامة، لتأسيس أعمدة اقتصادية صلبة تقوم على الوعي بالابتكار.

ويبقى القول في الأخير.. إنَّ قصص التنمية والتطوُّر القائم على الابتكار في العالم من حولنا، لم تكُن وليدة تفاعُل الإنسان مع المادة فحسب، بل هي نتاجٌ عمل متواصل لكل الجهات المعنية، ضمن منظومةٍ متسارعة، تخطَّت حاجز العمل البيروقراطي التقليدي، لتركِّز على الابتكار والإبداع في رحلة البحث عن حلول وآليات حديثة وملائمة للتحديات والفرص، إسهامًا في تحقيق غاية أكبر اختصارها: شمول تنموي قائم على الابتكار والمواكبة والشراكة.