كتاب (الاسترقاق)

...
...
...

المؤلف : ناصر عبود التميمي


إنَّ لهذا الكتاب أهميةً كبيرةً تتمثل في إعانة الباحثين عَنْ النظام العبودي المتوارث منذ أَن تفتقت عقول الآدميين عَلَى استرقاق نُظرائهم في الخلق والمتمثل بالصراع بين طَّبَقَة الأسياد وطَّبَقَة العبيد.
كما إنَّ مِنْ أهم الأسباب الَّتِي دعتني للخوض في هَذَا المضمار عَلَى الرَّغْمِ من تبجح الإنسانية بصورة عامة والأوربيين بصورة خاصة بإنهائه رسمياً هُوَ لإسماع صرخات أولئك المسترقين عَلَى أيدي مَنْ رسخت الهَمَجِيَّةُ في عقولِهم، والَّذِينَ يقتلون البشر لمجرد رغبة طرأت عليهم في لحظة غضب، دون خوف من خالق، أَو رادع من مخلوق، أَو وازع من ضمير. إضافة إِلَـى التحذير من عودة العبودية في الوقت الراهن وإِنْ ظهرتْ بلبوسٍ مغايرٍ، وتقنّعتْ بأشكالٍ مختلفةٍ عما كان عليها في العصورِ السابقةِ.
واستعرضتُ أوجه الاختلاف بين الباحثين فيما بينهم عَنْ الأسباب الَّتِي أدت إِلَـى ظهور الرق، فمنهم من عزاها إِلَـى أسبابٍ عسكرية، ومنهم إِلَـى أسبابٍ مادية، إِلّا أَنَّ كاتب هَذِهِ السطور ونتيجة بحثه الدؤوب في هَذَا المجال واستنطاقه للتاريخ خرج برأي آخر، إذ يرى أَنَّ السبب الرئيس لنشوء الرق واستعباد الإنسان أخاه الإنسان كانت وراءه دوافع اجتماعية، بتعبيرٍ أفصح، نظام الرق هُوَ الوليد الشرعي لنظام الزواج.
وأهدف مِنْ وراء تأليفي الكتابَ هُوَ سدّ الفراغ الحاصل في المكتبة العربية، ولتلبية متطلبات الباحثين عَنْ نظام العبودية، ولإزالة الضبابية والصورة النمطية المشوهة الَّتِي رسمها إعلام الأقوياء عبر العصور، والصقوها بالطبقات الدنيا المتمثلة بالرقيق والَّتِي ما زالت تلك الصورة عالقة في أذهان الكثير، والمساهمة في عرض الصورة الحقيقية لمظلوميتهم، من غير تجميل في الصورة، أَو تنميق في الكلمات، أَو تزويق في العبارات.
كما لم أدخر وسعاً في البحثِ لمعرفة الأسباب الحقيقة وراء نشوء نظام العبودية، وتتبع العوامل الرئيسية الَّتِي أدت إِلَـى تفتق العقل الآدمي لاستعباد نظيرة في الخلق، وعلى الرغم من أني لم استطع تحديد فترة زمنية في نشوء نظام العبودية؛ لأنّ ظهوره ليس حادثة تاريخية وقعت بيوم محدد كما هُوَ الحال في تنصيب ملكٍ أَو موت فيلسوفٍ، بل هي حالة اجتماعية نشأت تدريجياً وتطورت عبر التاريخ.
واشتمل الكتاب عَلَى مقدمة و (9) فصول، وبعدد (700) صفحة، فلخصتُ الفصل التمهيدي لتعريف الرق لغة واصطلاحاً، إضافة إِلَـى بداية نشوء الـمِلْكِية. أما الفصل الأول فقد خصصته لأسباب نشوء الرق، ومصادر روافده، وأهم أنواعه. ثمَّ تلاه الفصل الثاني الَّذِي بوأته لرأي الفلاسفة والمفكرين عَنْ النظام العبودي، فيما خصّصتُ الفصل الثالث لأسواق الرقيق وأعمالهم. وجاء الفصل الرابع ليحتل مكاناً خاصاً لِأَهَمِّ ثورات العبيد في التاريخ، واسهبت في الفصل الخامس عَنْ الرقيق في العصور القديمة والوسطى والحديثة، فيما جاء الفصل السادس عَنْ الرق في الديانات السماوية الرئيسية كاليهودية والمسيحية والإسلامية، فيما خصّصتُ الفصل السابع لموضوع تحرير الرقيق، وبوبّت الفصل الثامن للعبودية المقنّعة والَّتِي ظهر فيها النظام العبودي بشكل مغاير عما كان عليه سابقاً، مختبئاً وراء مسميات أخرى كالاستعمار والسخرة والمتاجرة بالنساء وغيرها. وجاءَ في ذيل الكتاب الخاتمة، وفي النهاية رَتبتُ المصادر والمراجع الَّتِي استندتُ عليها في الكتاب ترتيباً هجائياً، وقد وضعت المصادر العربية في المقدمة ومن ثَمّ تلتها المصادر الانجليزية.
كما لا يمكنني أن أدّعي بأن هَذَا النتاج هُوَ باكورة الأعمال الَّتِي تناولت مسألة الرق والعبودية، بل هناك بعض الكتّاب العرب والأجانب الذين أدلوا بدلوهم، وقد اقتبست من نتاجاتهم، وأطلعت عَلَى آرائهم، واستفدت من معلوماتهم، فكان لهم الفضل الكبير لبلوغ هَذَا الكتاب إِلَـى ما وصل إليه، ولا يفوتني أن أذكر ما سجلّته من بعض الملاحظات وهي أولاً: إما تناولوا الموضوع من وجهة واحدة، مثل كتاب (الرق في الإسلام) للكاتب أحمد شفيق، أَو (شبهات حول الإسلام) للكاتب محمد قطب، أَو (القول الدقيق في موقف الإسلام من الرقيق ) للدكتور بدوي مطر، أَو (الرق في الجاهلية والإسلام) لإبراهيم محمد حسن الجمل، أَو (العبودية في العصر الحديث) للكاتب الانجليزي باتريسيا ديلبيانو.
وثانياً: أنهم اختزلوا مؤلفاتهم بصفحات قليلة مثل كتاب (نظام الرق عبر العصور) لمركز زايد للتنسيق والمتابعة إذ أنه اختصره بشكل ملفت للنظر حتى أصبح لا يتجاوز المائة صفحة، فيما كان كتاب (الرق ماضيه وحاضره) للدكتور عبد السلام الترمانيني أوسع واشمل إذ قد تجاوز المائتي صفحة.
غير أَن ما لفت انتباهي وأثار استغرابي عَنْ موضوع العبودية إذ عَلَى الرغم من أهميته وقِدَمِهِ إِلّا أَنَّ الكتّاب والباحثين العرب لم يولوه مكانة تَليق بأهميته، وبقيت محاولاتهم مجرد إيمائه خجولة، في الوقت ذاته لا أدّعي أن هَذَا الكتاب أحاط بكل شاردة وواردة، كما أني لا اطمح بأن يصل كتابي إِلَـى درجة الكمال لأني (لو كنت لأنتظر الكمال، لما فرغت من كتابي إِلَـى الأبد) - عَلَى حد قول المؤلف الصيني «تاي تنج»-، كما أني لا أدّعي تفوق كتابي في هَذَا المضمار عَلَى اقرانه من الكتب، ولا أرى أني اشبعته بحثاً ؛ وذلك لسعتهِ أولاً، وبُعد غَوْرهِ ثانياً، ولكني أرى أَنَّ هَذَا الكتاب هُوَ محاولة متواضعة لتلبية حاجة الباحثين والمتطلعين إِلَـى الوصول إِلَـى بعض ما آل بمصير ملايين البشر. ومن الجدير ذكره أَنَّ الفت عناية الكتّاب والباحثين أَنَّ هَذَا الموضوع ما زال ناقصاً وهو يستغيث بأساتذة التاريخ، وإعلام الفكر، والمهتمين بشأن حقوق الإنسان ليجردوا يراعهم الرصين، ويشحذوا فكرهم الحاذق من أجل إكماله. وأود أن أنوه إِلَـى أني لا أُريد أن أتقمص شخصية الزاهد، ولا أُريد أن ألعن الانانية الملازمة لإنسانيتنا، بل سأبوح ببعض تطلعاتي وهو أن يغدو هَذَا الكتاب له نصيب من الأهمية عند الباحثين كمرجع علمي، وأن يحتل مكانته المستحقة، وأن لا يبخس حق كاتبه.
وقبل مغادرتي ميدان البحث ومشارفتي عَلَى أَنْ أنتهي أود أن أذكر بأن جل ما أقصد من وراء تأليفي لهذا الكتاب المتواضع هُوَ المساهمة بجزء بسيط في تذكير العالم بمظلومية الإنسان عَلَى أيدي أخيه الإنسان عبر قرون عديدة وآماد مديدة، ولم اقصد بذلك نكأ جراحات الماضي، وبسط ما طوته السنون، بل هُوَ لإنصاف الملايين من البشر، والمساهمة في كتابة جزء من التاريخ، وترميم الذاكرة الإنسانية الَّتِي عادة ما تُصاب بداء النسيان.
كما أود أن أنوه إِلَـى أني حاولت قدر استطاعتي تجاوز الأخطاء وعدم الوقوع في الهفوات مهما كانت تافهة غير أن ما هَوَّنَ عليَّ وجودها هُوَ ما قرأته عَنْ «أبي إبراهيم المزني» قوله: (لو عُرِضَ كتابٌ سبعين مرةً لوجدنا فيه خطأ، وأبى الله أن يكون كتابٌ صحيحٌ غير كتابه). وَعَلَى الرغم من ذلك فأني لأدعو القارئ الكريم، والباحث الحاذق أن يرشدني إذا ما عثر عَلَى كبوة في المنهج، أَو ركاكة في التعبير، أَو ضعف في الأسلوب، أَو خطأ في الطباعة والَّتِي اقرّ بها جميعاً، وإن يعذرني عليها لأن العذر عند كرام الناس مقبول، كما لا أطمح إِلَـى الاشادة بهذا الكتاب إذا كان فيه شيء من السداد لأنه من الله سبحانه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تعليق عبر الفيس بوك