علي المعشني
ألهمني مقال الزميلة المبدعة عائشة السيفية عن شيخوخة الحكومة، وما ورد في ثناياه، وما كتابة هذا المقال سوى إضافة وتوضيح لما ذهبتْ إليه الأخت عائشة، ولكن من زوايا جذرية أعمق؛ لإيماني العميق بأن ما نراه على السطح اليوم ليس سوى نتائج، والحديث عن النتائج وتوصيفها وتشخيصها سيُلهينا عن جذور المشكلة وأسبابها.. فمقال الكاتب في النهاية هو مُحصِّلة معلوماته المحدِّدة لقناعاته التي يبني عليها رؤاه، ويوثق بها نظرته ورأيه.
يُحدِّثني صديق أتاحت له ظروف العمل فرصة الالتحاق بمؤسسة مالية عالمية كبرى كأحد كبار موظفيها وصناع سياساتها؛ حيث أبدى صديقي إعجابه الشديد بجو العمل وحرص القائمين عليه على التجديد وتجاوز جميع العثرات إن وُجدت لتحقيق العصرنة ومواكبة العصر، تحت شعار مصلحة العمل؛ حيث يقول: "ما أغراني ودفعني للعمل بهذه المؤسسة ليس اسمها ولا عراقتها ولا عالميتها فحسب، بل الثقة المطلقة الممنوحة للمسؤول بها، وهامش الحركة الكبيرة والصلاحيات الواسعة له في التغيير الإيجابي والتطوير، وتمكين رؤيته دون تدخل أو تأثير من أحد؛ فالعِبرة لدى مجلس إدارتها في النتائج النهائية ومدى تطابقها مع مصلحة المؤسسة وخدمة مستقبلها وتطويرها".
ويقول صديقي: "بعد التحاقي بالعمل، أبديت لمسؤولي المباشر خوفي من وجود مواد تشريعية على لائحة المؤسسة تعيق تطبيق نظرتي للعمل، وتحد من طموحي في الارتقاء به، فقال لي: حين تجد في المؤسسة قانونا أو مادة في قانون قد تعيق رؤيتك، فلك كل الحق ومطلق الصلاحية في تغييرها فورًا، حتى وإن لم يمض على صدروها يوم أو ساعات، فنحن لا نعبُد النصوص ولا القوانين، بل نسخِّرها ونطوِّعها لخدمة مصالحنا" (انتهى).
فلسفة الإدارة المعاصرة تقول بأن "القائد العبقري" لأي مؤسسة لا يُمكنه الإبداع لأكثر من خمسة أعوام متتالية، ففي العامين الأولين يتعرف على طبيعة عمل مؤسسته وقدرات أفرادها، وفي الثلاثة أعوام التالية يضع بصماته ورؤاه لتحقيق الارتقاء بها، وبعد انقضاء السنوات الخمس يبدأ في الدفاع عن أخطائه؛ لذا يجب استبداله وتغييره بآخر ليستمر التطوير والارتقاء.
وفلسفة القانون هي تحفيز المجتمعات والأفراد على الارتقاء والتطور، وليس العقاب، ومن هنا فالعيب ليس في القانون بل في فهم البعض لفلسفة لقانون، هذا الفهم الذي يؤطر عقلية المشرع وينطق بالمواد والنصوص على أرض الواقع سلبًا أو إيجابًا، هذا الفهم الذي دفع ببعض السلبيين في الفهم لتجاوز وجهل أبسط القواعد القانونية، بل والقواعد العامة للقانون والمتعارف عليها عالميًّا، فأنتجوا قوانين مكتبية عقيمة استخلصت من الناس أسوأ ما فيهم من طباع وصفات.
هذا التباين في الفهم يجعلني أستحضر هواية بعض المسلمين اليوم في فهم التكامل ما بين المذهب والإسلام، على أنه صراع وانسلاخ الفرع عن الأصل، وما بين فهم البعض بأهمية الاحتكام والانتصار للمذهب وفهمه على حساب الدين وأصوله، وفي المقابل ما بين من يجعل فهم المذهب وتفسير أصول الدين محكومين بمدى تحقيقهما لفلسفة مقاصد الشرع. فالعبرة في القوانين الوضعية اليوم بمسمياتها وموادها وأطوارها مرهونة بمدى تحقيقها للمصلحة العامة للدولة والمجتمع، وعدا ذلك فهي لا قيمة ولا حاجة لها.
وبالعودة لصلب المقال، يُمكننا القول إنَّ حكومتنا الرشيدة ومنذ بزوغ فجر النهضة سعت وهدفت لتحقيق المصلحة العامة، وحصرت جهودها وسعيها تحت هذه المظلة وهذا العنوان، ويمكن للمتابع لأطوار ومراحل التنمية وأداء الحكومة في السلطنة رؤية ذلك الشعار والهدف في جنبات الوطن وخطط التنمية ومواد التشريع وتفاصيل التطبيق الإجرائي اليومي بجلاء شديد في العشرية الأولى من عمر الدولة العصرية الفتية. وهذا ما هو مُدوَّن ومُعلَن في تقارير المؤسسات الدولية المسؤولة عن مراقبة وتقييم الأداء وسير التنمية في الأقطار المنتمية لها كالبنك الدولي، وما حدث في العشرية الثانية وما تلاها يمثل انحرافًا عن مسار التنمية وأهدافها، وإخلالًا غير واع بالمصلحة العامة للدولة؛ حيث انهمكت كل مؤسسة خدمية في تفاصيل إجرائية شكلية أبعدتها بالنتيجة عن مهامها التنموية، وتسببت بالتبعية في تفكك ثقافة الفريق الواحد، وتشتيت الجهد التنموي المتكامل للحكومة.
مُجرَّد تصريح معالي الدكتور علي بن مسعود السنيدي وزير التجارة والصناعة، من على منبر مجلس الشورى، مؤخرًا، بأن وزارته عقدت عددا من الاتفاقيات مع وزارات أخرى تشكل جميعها منظومة الحكومة الواحدة لتبسيط إجراءات العمل وتنسيقه بينهم، أكبر دليل على غياب ثقافة عمل الفريق الواحد لدى القطاع الحكومي، وغياب مرجعية التوجيه والقرار، وحضور الوحدانية، وتعدد النظرات والجهود والاجتهادات في القطاع الحكومي، ووصوله لمرحلة إعاقة التنمية، وإعادة تدوير المشكلات وإنتاج الحلول المستهلكة.
ما وصل إليه حال الأداء الحكومي في السلطنة من جمود وتضخم بيروقراطي فج، تسبب بالنتيجة في نشوء ثقافة الهروب إلى الأمام، والبحث عن حلول أنتجت مشكلات جديدة وتضخما إداريا غير مُبرِّر تسبب في تداخل الاختصاصات وتنازع الصلاحيات بصور أعمق وأكبر بين مؤسسات الحكومة الواحدة، إلى درجة أن بعض التشريعات والقرارات والإجراءات في مؤسسات بعينها عطلت مهام وخططَ مؤسسات أخرى؛ الأمر الذي خَلق ثقافة التفاوض بين مؤسسات الحكومة الواحدة لفك هذا التداخل والاشتباك غير المنطقي أو المبرر، وكما أوضح معالي الوزير وغيره من وزراء القطاع الخدمي في السلطنة.
في هذا المناخ -في تقديري- لا يُمكننا نسب ما آلت إليه الأمور إلى شيخوخة الحكومة بقدر ما يدفعنا للتفكير بما هو أبعد من ذلك، والبحث في شيخوخة المنظومة والمناخ العام لعمل الحكومة وتقلص إنتاجيتها عبر مراجعة المنظومة الإدارية وهيكل الجهاز الإداري للدولة منذ العام 1970م وحتى اليوم.
وما يُعزِّز اعتقادي هذا، ويجعله ضرورة ملحة، هو أننا جرَّبنا ضخ دماء جديدة أكاديمية ومتخصصة ومن أعضاء مجلس الشورى، مع جملة من الندوات والمؤتمرات لتعزيز الأداء الحكومي والارتقاء به، ولكنَّ العائد من كل هذا كان أقل من المرجو والطموح بكثير، إن لم نقل لم يُحرِّك ساكنا، والسبب في تقديري لا يَكمُن في تمكين الدماء الجديدة ولا العقول الجديدة بقدر ما يكمُن في المنظومة الإدارية والتشريعية المتوارثة والمتقادمة، والطاردة لأي تطوير، والمحصنة من أي تغيير، والتي تكفلت بالنتيجة في إفشال أي جهد فردي أو جماعي للحكومة في تجديد نفسها والارتقاء بأدائها، ومواكبة العصر، وتحقيق المصلحة للعليا للوطن. فالوزارات والوزاء اليوم متشابهون إلى حد التناسخ والتطابق في كل شيء، ولم نعد نجد ما يُميز هذه الوزارة أو هذا الوزير عن الباقي، سوى الشكل والصورة.
الأمر الآخر والمحيِّر هو سَعْي الوزارات والوزراء نحو شهادات التقييم والإشادات الدولية وأرقام الترتيب أكثر من سعيهم لإثراء قطاعاتهم والارتقاء بها وإرضاء المواطنين في الداخل؛ كون هذا الرضا هو أعلى شهادة وأغلى إشادة من غيرها.
نحن اليوم في أمسِّ الحاجة لتشجيع المبادرات الفردية والاستقلالية للوزراء لوضع خطط وتصورات لأداء وزاراتهم، وكيفية إدارتها، بتوفير مساحة معقولة عن هيمنة مجلس الوزراء وضوابطه ومراقبته، وفك المركزية الحكومية وغيرها أينما وجدت عن المصارف والمؤسسات المالية ومجالس إدارة مؤسسات القطاع الخاص، والتي أصبحت صورية وشكلية إلى حد كبير بفعل الصلاحيات والتدخلات الواسعة وغير المبررة بمجملها للبنك المركزي وهيئة سوق العمل ووزارة القوى العاملة.. "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".
كما أننا بحاجة ماسة لهيئة حكومية/أهلية مؤقتة وموسعة يناط بها مراقبة وتقييم الأداء الحكومي وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة ومراجعة كافة القوانين السارية والإجراءات المعمول بها وتبسيط الإجراءات وتقليصها لنظفر بحكومة عصرية مواكبة للعصر، وتعمل لتحقيق شعار أوحد، وهو ما تقضِي به المصلحة العامة؛ فالعاقل يُدرك أن البيروقراطية منظومة إدارية موازية، وثقافة منتجة لعقليات وفيَّة لها، وأقوام منتفعة منها ومرهقة للوقت ومرهقة لمقدرات الوطن، وحين تستشري وتترسخ في بلد ما يستحيل القضاء عليها وتجفيف منابعها، ولكن يمكن التقليل والحد كثيرًا من مظاهرها وآثارها بالتدرج الزمني والتأهيل البشري، وبتنمية وتعزيز الضمير المهني للموظفين، فما لا يُدرك كله لا يترك جُله.. وبالشكر تدوم النعم.
------------------------
قبل اللقاء: أحلم بإنشاء وزارة للتنمية السياسية، وفرض تدريس مادة ثقافة الدولة في مراحل التعليم العام والعالي؛ فضريبة الوعي السياسي أقل بكثير من ضريبة الجهل السياسي وغياب الوعي بثقافة الدولة. وغياب الوعي السياسي والجهل بثقافة الدولة يتسلل من خلالهما "النشطاء" وطلاب الشهرة والأضواء، ويدفع ضريبة كل ذلك الوطن.
Ali95312606@gmail.com