السلطان قابوس.. فاتح أبواب السلام

علي كفيتان

برعت المدرسة السياسية العُمانية في ترويض الأزمات وفتح منافذ السلام في أحلك الظروف، فعُمان بسيدها الوقور وشعبها الطيب المتسامح، وسياستها الهادئة المتزنة، هي الملاذ الوحيد للهواة الذين تقطعت بهم السبل في تخوم الجبال وغياهب الصحراء، وإن استثمار سياسة السلام وزراعة الحب لا محالة كفيلة بجلب كل التائهين على طائرة عُمانة، هي الوحيدة التي تستطيع الهبوط والإقلاع من كل مطارات الدنيا.

زيارة رئيس جمهورية مصر العربية للسلطنة ستشكل منعطفاً جديداً في حل الأزمات التي تعصف بالعالم العربي؛ لأن كل القناعات باتت واضحة بأنَّ تلك الأزمات تنزف لحمة وتاريخ وموروث العرب قبل خزائنهم، زمرة من المغردين رأوا في مراسم استقبال الرئيس المصري شيئًا من المبالغة، لجهلهم بمصر الدولة التي قادت مشعل التنوير إلى كل أصقاع العالم العربي، فعندما امتلك هؤلاء البدو المال فجأة لم يكونوا يمتلكون العلم، فقامت أرض الكنانة بهذا الواجب، عبر جيوش من رجال مصر المسلحين بالقلم. لقد علَّم المصريون الجاهل والأمي معاً، وصبروا على حر الصحراء وقساوة قلوب أهلها، واليوم يتنكرون لكل هذا الجميل الذي صنعته مصر العظيمة بعظم أهلها وتضحيات أبنائها لبناء أمة عربية مجيدة.

مصر هي روح الأمة العربية وقلبها النابض بالحياة، فلا عرب بلا مصر الكنانة، استوقفتني كلمة صاحب الجلالة -حفظه الله- مُرحِّباً بضيفه رئيس جمهورية مصر العربية عند بوابة مسقط؛ حيث قال جلالته: "أسعدتونا"، وهنا دلالة بأنكم أيها المصريون جميعاً أسعدتونا، ونحن عندما نفرح لزيارة الرئيس المصري نعطي الأهمية لمصر الكيان الكبير، ونضعها في مكانها ومقامها الصحيح، ولن تختلف المراسم مهما اختلف الرئيس؛ فمصر هي غايتنا ليقيننا بأن من يحكم مصر اليوم قد لا يحكمها غداً، ولكن مصر الدولة تظل شاخصة بكل أفضالها ومواقفها في عين كل عُماني؛ لأننا قوم نحفظ الجميل، ونُنزل الناس مقاماتهم.

لي قصة مع مصر ستظل معي حتى أغادر هذه الدنيا، وهي أنني كنت في بداية سبعينيات القرن الماضي طالبا في مدرسة جبلية بظفار، إنها مدرسة الخيمة التي تقبع وسط فرقة أبو بكر الصديق (طيطام)، المدرس كان الأستاذ أحمد عطية مصري الجنسية -رحمه الله- والحرب لا تزال مستعرة في الجبال، كان الرجل يحمل بندقية الافن ويحضرها معه لخيمة الصف، وتكون رفيقته في كل تحركاته وسكناته، وأذكر أن ذلك المعسكر تعرض لهجوم الثوار عدة مرات، سألت أستاذي مرة: لماذا تحمل البندقية؟ فقال لي لكي أعلمك يا بُني؟ ظلت هذه الإجابة هي عربون محبتي لمصر وأهلها الأخيار، لم يكن الهدف المادي مكسبا لهم، بل كانوا يعملون بروح المحبة والإخاء والتضحية في أجلِّ صورها لانتشال الناس من براثن الجهل إلى آفاق المعرفة.

أكرمني ربِّي وزرت أستاذي في الإسكندرية في مرضه الأخير، وأذكر أنه كان لا يقوى على الكلام، لكنه عندما نظر إليَّ تهلل وجهه، وقال لي بصوت خافت في أذني: "كيف طيطام؟ وهل لا زالت الفرقة مكانها؟" فلم أتمالك نفسي وارتميت في حضنه كما كُنت أفعل وأنا صغير، وبكى معي، ثم مسح على رأسي وشكر وفائي له.. هؤلاء هم رجال مصر، لا يستجدون أموالكم ولا صداقاتكم أيها الأعراب.

ذهب رئيس جمهورية مصر العربية حاملا معه ذكريات زيارة لا تُنسى لشعب أحبَّه؛ لأنه يُحب مصر، ولقائد عظيم أعطى لمصر قيمتها ومكانتها في أحلك الظروف، ونأمل أن نرى ثمار زيارة الحكمة قريباً عبر إغلاق ملفات الخلاف وفتح آفاق التعاون ولجم جماح القنوات الفضائية التي ظلت تنخر الصف العربي وتقلل من قيمته، عبر مهاترات وصلت في كثير من الأحيان إلى الأعراض، نريد عودة هادئة إلى قاهرة المعز، ولمِّ شتات العرب، وتجديد الخطاب السياسي، نريد لمصر أن تنأى بنفسها عن الخلافات العربية-العربية لتظل الوسيط النزيه كما كانت على مدار تاريخها، نريد لمصر أن تتصالح مع نفسها، وأن تصبح واحة أمن واستقرار لكل المصريين بلا استثناء بإذن الله.. حفظ الله مصر وشعبها العظيم.

alikafetan@gmail.com