أدب الحرب وسمات التجديد الشعري

"السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" (4)

د. السيد العيسوي عبد العزيز – ناقد وأكاديميّ مصريّ
مدير النشاط الثقافي بمتحف أمير الشعراء أحمد شوقي

 

في الحلقة السابقة/الثالثة تطرقنا إلى سمة قريبة لاحظناها، في ديوان "السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" للشاعر السوري عمر هزاع تدل على براعة الشاعر، ووعيه بدوره الفني، ألا وهي مسألة تجسيد الهواجس والمشاعر في صورة كائنات حية تعيش وتتنفس وتدخل في حوار درامي أو تفاعل درامي مع الشاعر، وهي تقنية عالية التأثير.
وهذا يجعلنا نتحول إلى سمة مميزة سبق أن ألمحنا إليها، وهي أنه يضفر نصوص شعره بالخيط الإنساني الشفيف، فنحن نعرف النزعة الوطنية الفطرية في كل منا، ومدى تفجر الشعور الوطني، لا سيما لدى الشعراء، ولا شك أن هذا الشعور له متطلباته، وفي ظل ظروف الحرب قد يضطر الإنسان إلى الهجرة تحت ضغط خوفه على أبنائه وزوجته وربما أمه وأبيه، وكل من في رعايته، وليس على نفسه، ويجد نفسه مربوطًا بفكرة الرعاية والحماية، ولا فكاك، وقد يراجع الإنسان حساباته طمعًا في القيام بأدوار متعددة، ويجد نفسه عاجزًا عن قياس كل الحسابات، هنا لا نجد صوتًا يعبر عن هذا الحديث الداخلي خيرًا من الشعر، يقول الشاعر عن هذه الجدلية في ختام قصيدته المؤثرة "أفكار هاربة" مخاطبًا الوطن ثم ذويه:
دَفَعتُ غَدِي فَواتِيرًا لِأَمسِي
فَأَورَثَنِي؛ لِقاءَ اليَومِ؛ شَرَّا
خَلَعتُ؛ لِمَنعِ ذِلَّتِهِ؛ زَئِيرِي
لِأَلبَسَ ذِلَّتِي؛ بِالقَمعِ؛ هِرَّا
وَهُنتُ عَلَيهِ؛ بَعدَ العِزِّ؛ حَتَّى رَضِيتُ العَيشَ مَغمُورًا وَغِرَّا
رَفَعتُ لَهُ قَصِيدِي سَقفَ حُلمٍ
بِمِعوَلِ غُربَةٍ؛ يا ابنَيَّ؛ خَرَّا
فَفُكَّا لِي؛ إِذا ما لُمتُمانِي؛ قُيُودَ أُبُوَّتِي
لِأَمُوتَ حُرَّا.
إنها جدلية معقدة (الأنا - الوطن - الأبناء) الأبيات تعبر عن تحولات رهيبة في إيقاع عمر الشاعر، وتعكس صراعًا رهيبًا مع النفس، كما تعكس هواجس وأفكارًا يصعب التعبير عنها، إن جمال الشعر أنه يتولى الحديث عن اللاوعي، حيث يصعب التعبير والتنفيس والترجمة إلا شعرًا، حين يتولى الشعر –كما الحلم- مسؤولية التخفيف عن ضغط اللاوعي، فينفجر من أضعف قشرة، منفسًا عن الكثير، وكانت أضعف قشرة هنا هي الأبناء، حيث تلتهب مجموعة من المشاعر المتناقضة من الصعب التعبير عنها.
يراجع الشاعر ذاته بمنطق المكسب والخسران:
دَفَعتُ غَدِي فَواتِيرًا لِأَمسِي
فَأَورَثَنِي؛ لِقاءَ اليَومِ؛ شَرَّا
فلا يجده حصل شيئا، ولنلاحظ أنه يقيس الأمور بمقاييس شعرية (الخير والشر) مع أنه بدأ بتقديم معجم مادي عصري (دفعت فواتير)، ولكنها حيلة ناجحة وفعالة لجذب المتلقي.
ثم تأتي لحظة صعبة تعبر عن كثير من الخسائر في تلك المعركة الروحية:
خَلَعتُ؛ لِمَنعِ ذِلَّتِهِ؛ زَئِيرِي
لِأَلبَسَ ذِلَّتِي؛ بِالقَمعِ؛ هِرَّا
وهي صورة مؤلمة يتم فيها التحول من صورة الأسد إلى صورة الهر رغمًا عن الشاعر، ولكنها تدعو إلى التعاطف لفرط ما فيها من صدق وشفافية إنسانية، وضعف إنساني، ولا شك أن كلنا هذا الرجل، حين نوضع في نفس الظرف، من هنا يتكسب الشعر أبعاده الإنسانية، وينفذ إلى القلب، ولا يكون هذا مجانًا، بل يقدم الشاعر له مبرراته وحيثياته الشعرية إن صح التعبير، يقدم ما يثبت هذا الضعف، دون تخطيط مسبق، وهذا أحد أسرار جمال الشعر وإنسانيته، إنه يقدم الصورة والدليل، ومن ثم يتحقق الصدق ويحصل التعاطف، وهذا في حد ذاته بطولة من نوع ما، تعبر عن بذرة البطولة في عمق الذات الإنسانية، تلك البذرة التي انتزعت منه لتزرع في أرض بوار بفعل القهر الذي يقبل آثاره وتضحياته لا لنفسه ولكن خوفًا على من يصطحبهم في يديه في درب المنفى الطويل.
يتحول هذا الزئير المسلوب إلى زئير شعري متحقق رغم كتمانه، ونشعر نحن بهذا الزئير الإنساني، ومن ثم يتحقق جزء من ذاتنا عبر هذا الصوت، فالشعر يتحول إلى قوة باطنية للوجود.
وتعبر الصورة بعد ذلك عن تناقضات حادة تتم عبر تصادمات لفظية عنيفة نكاد نسمع صوتها:
وَهُنتُ عَلَيهِ؛ بَعدَ العِزِّ؛ حَتَّى رَضِيتُ العَيشَ مَغمُورًا وَغِرَّا
رَفَعتُ لَهُ قَصِيدِي سَقفَ حُلمٍ
بِمِعوَلِ غُربَةٍ؛ يا ابنَيَّ؛ خَرَّا
ينفك الوجود، وتنهار القيم، وتتحول الأشياء، وتفتقد الحياة وجهها الحقيقي المرسوم منذ الطفولة، تتحول إلى وجه شائه، وربما كان القصيد المحطم هنا معادلا للوطن، فالوطن/القصيد يتحطم، ويتحول إلى نثار.
ولربما كانت الكلمة المحورية هنا هي (الغربة) أما أضعف قشرة في سطح اللاوعي فكانت عبر هذا النداء إلى طفليه: (يا ابنيَّ).
وهنا ينفجر اللاوعي بمجرد العثور على هذه القشرة، ويتحول القصيد إلى بركان:
فَفُكَّا لِي؛ إِذا ما لُمتُمانِي؛ قُيُودَ أُبُوَّتِي
لِأَمُوتَ حُرَّا.
وهو بيت ختامي يصل إلى أعلى درجات الشاعرية والضعف والتفجر، ويعدل كثيرًا من القصائد الوطنية التقليدية، وهكذا يمزج الشاعر شعر الحرب بالنوازع الإنسانية المتفجرة التي تعطي لهذا النوع من الإبداع مذاقًا خاصًّا يبعده عن جو الخطابية والإنشائية والقرقعة اللفظية، وهي سمة وجدناها تتحقق عبر أكثر من نموذج سابق، لأن تجربة الحرب هي تجربة إنسانية شاملة، تلتهب فيها كل المشاعر، ويمر المرء فيها بكل التحولات.
ولعل لجوء الشاعر إلى شكل اللزومية في قافية هذه القصيدة ذو دلالة في هذا السياق، فحب الوطن إلزام، وقيود الأبناء إلزام، ومن ثم صار الشاعر مقيدًا من كل ناحية، ولا يجد فكاكًا من هذا وذاك، وهكذا كانت اللزومية هنا شكلًا إيقاعيًّا معبرًا عن لب التجربة، ولم يكن أداء شكليًا، كان يعني –في الرؤية الباطنية للنص- أن الشاعر يختنق، ووحده الشعر هو المنقذ، أو هو صوت الشاعر الأخير قبل الفراق. كان يعني اعتصارًا –أيضًا- من نوع ما، حيث كل الحبائل تُلَفُّ حول رقبته في إلزام وإحكام.
كما كانت الراء التكرارية معبرة عن تكرار هذه القيود وحركة التلوي، وكانت ألف الإطلاق معبرة عن هذا الصراخ المستمر أثناء الاختناق، ولكن كان على الشاعر أن يكتم ذلك أمام أبنائه، وكان على الشعر وحده أن يتحمله عبر طاقته على استيعاب المشاعر بتقنياته الخاصة وأحضانه غير المرئية.
وهكذا كان الإيقاع قيمًا شعرية متفجرة ذات دور فاعل في نقل أعمق أعماق إيقاعات التجربة النفسية والكونية مما لا تحتمل تحمله الكلمات العادية.

تعليق عبر الفيس بوك