إيران الثورة هبة من السماء (1 -2)

 

علي بن مسعود المعشني

انفضت المظاهرات الأخيرة في إيران في زمن قياسي وفرزت العديد من الحقائق للذين يعرفون إيران من الداخل وللذين لا يعرفون إيران من الداخل أو الخارج ويتحدثون بأمنياتهم لا بعقولهم ومنطق الواقع. فرزت المظاهرات ما بين وطنيين إيرانيين شرفاء ومخلصين لهم مطالب معيشية مشروعة ومعروفة وبين مواطنين رهنوا أنفسهم لأجندات خارجية مشبوهة لم تهدأ يومًا في سعيها لتمزيق إيران الكيان والثورة؛ سعيًا منهم للتفرد بالمنطقة وتمرير مشروعهم التطبيعي البائس وبسطه بالقوة والإكراه منذ كامب ديفيد عام 1979م لتمكين الكيان الصهيوني في المنطقة ليصبح السيّد القوي والأوحد والآمر الناهي والرادع المرعب والحارس الوفي والأمين للغرب الاستعماري في قلب الأمة العربية والمعيق الأول والأخير لأي قوة عربية فردية أو إقليمية ولأي مشروع نهضوي عربي أو تكتل وحدوي أو حتى تضامن عربي.

لم يكن أكثر المتفائلين أو المتشائمين على وجه الأرض يحلم - مجرد حلم - بقيام حدث زلزالي إقليمي ودولي بحجم الثورة الإسلامية في إيران وأن تجعل الثورة عمقها العربي وبوصلة فلسطين وقضيتها الركن الأول في مبادئها وميثاقها وبالتالي تعيد الحسابات وخلط الأوراق في المنطقة إلى المربع الأول مجددًا.

ففي الأول من فبراير عام 1979م وصل الإمام الخميني إلى طهران مكللًا نصر ثورته ورفاقه بعد عقود من النضال وجملة هائلة من التضحيات، ورحل شاه إيران ومعه أكثر من (29) ألف خبير ومستشار عسكري وأمني وسياسي أمريكي هم في حقيقتهم من يحكم إيران ويقرر مصيرها وهويتها وعقيدتها السياسية والعسكرية في المنطقة.

الله وحده من يعلم سر هذا الانقلاب التاريخي في إيران وسر تزامنه مع لحظة خروج مصر من معادلات الصراع والقوة في المنطقة بفعل كامب ديفيد، ولحظة اغتيال الزعيم الباكستاني ذوالفقار علي بوتو (أب مشروع القنبلة النووية الإسلامية) ولحظة اغتيال الزعيم العربي هواري أبومدين شريك ذو الفقار ولحظة وصول كل من الرئيس صدام حسين للسلطة في العراق ومارجريت تاتشر للسلطة في بريطانيا، وفي لحظة إعلان بريطانيا عن إلغاء حلف بغداد رسميًا والذي شكلته عام 1955م كنواة حاضنة ومأمولة لما يعرف اليوم بمشروع الشرق الأوسط الجديد، جميع تلك "اللحظات" كانت في عام 1979م وهو العام "الفيصل" في تاريخ الأمة الحديث وبامتياز.

ما من شك أنّ الثورة الإيرانية تميزت بجملة من العبقريات والتي تعبر عن دهاء وعبقرية من خطط لها ونفذها وقادها وصانها، تلك العبقريات التي لم تُشكل هوية الثورة الجامعة فحسب بل شكلت المناعة والحصانة لها لاحقًا لتقف بصلابة أمام جميع المؤامرات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية لتبني دولة فاعلة وحيوية في المنطقة خضعت لها أعتى الرؤوس وأكبرها وتحطمت على صخرتها أكبر المؤامرات، ومن المفيد هنا أن نعترف لهذه الثورة العظيمة بأنّ من أدرك عبقريّاتها وفاعليتها هم الخصوم والأعداء والمتآمرين عليها وليسوا أغرار السياسة وأميي التاريخ والجغرافيا وإرادات الشعوب.

أولى هذه العبقريات أنّ الثورة قرأت واستعرضت وحللت كل المشهد السياسي في تاريخ إيران السياسي المعاصر من حراكات وحركات سياسية ودعوات إصلاحية قامت باسم الإصلاح والتغيير الإيجابي واسترداد الهوية الوطنية وضد العمالة والتغريب ومع كرامة الدولة وثوابت الشعب الإيراني، فوجدتها نخبوية أو فردية أو نابعة من أيديولوجيات ضيقة ومحدودة الأثر والفاعلية، فلجأت الثورة واختارت الإسلام كهوية لها وكهوية جامعة لغالبية الأطياف المكونة للشعب الإيراني وفسيفسائه العرقية والطائفية والدينية والمذهبية ونجحت في ذلك بامتياز، فمن ليس مسلمًا بديانته فهو مسلم بثقافته ومواطنته؛ وهذا نهج الثورات الحقيقية.

وثاني العبقريات للثورة أنها تيقنت بأن الإطاحة بالعملاء في الداخل لا يكفي بل يجب مواجهة وإسقاط من يقف خلفهم ويدعمهم ومن صنعهم من الخارج وعلى رأسهم أمريكا، ونجحت في ذلك، فيكفي استدعاء تجربة ثورة الوطني محمد مصدق في الخمسينيات من القرن المنصرم  والتي اكتفت وتوقفت عند إسقاط الشاة، ولم تمتد لمن دعمه ونصبه وقوّاه فعاد لها الشاة من نافذة الثورة المضادة وثغرتها وبدعم من الغرب مجددًا فأسقط الثورة الوطنية وأطاح برموزها وأجهض مشروعها وأحكم قبضته على الداخل وتمادى وتفانى في خدمة العرش الأمريكي ورعاية مصالحه في المنطقة أكثر من ذي قبل. وهذه رسالة جلية لزعماء الربيع المشؤوم ودعاته.

وثالث عبقريات الثورة أنها عرفت من هم ضدها ومن هم ليسوا معها وميزت وفرزت بينهم في مبدأي الثواب والعقاب. وهذه رسالة لثورات الناتو.

ورابع عبقريات الثورة أنّها أدركت أنّ من يحارب الجغرافيا ويقاتل الأرض ويتنكر للتاريخ محكوم عليه بالتبعية والانكفاء والفشل، فمدت يدها وعقلها نحو العمق العربي وقضاياه المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين، وتفاعلت عضويًا مع محيطها الجغرافي والتاريخي والحضاري وجعلت ذلك من ثوابت سياستها الخارجية ومن صميم أمنها القومي. وهذه من أبجديات السياسة والاستراتيجيات.

وخامس عبقريات الثورة أنّها فصلت بين الثورة والدولة فجعلت للدولة دستورا وقوانين والثورة ميثاق وطني يؤطر حراك الدولة ويغذي تشريعاتها دون الحاجة إلى تدخل الثورة في ماهية الدولة ومتطلباتها العصرية ودون الانتقاص أو المساس بشرعية الثورة وميثاقها وثقافتها وأهدافها، لهذا من واكب حراك الدولة وأطوارها في إيران الثورة منذ عام 1979م ولغاية اليوم فسيلمس الكثير من التحولات في شكل الدولة في إطار هوية الثورة ونهجها. وهذه من الواقعية والمرونة السياسية.

سادس عبقريات الثورة أنّها حصنت نفسها من السقوط والاختراق والوهن والتآكل عبر منظومة مؤسسات حرجة عقائدية ودستورية شكلت الحلقة المركزية للنظام كالمرشد الأعلى ومجلس صيانة الدستور ومجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام والبرلمان وهيئة الرئاسة مع وجود تراتبية دستورية ومرونة قانونية عالية في تحديد مسؤوليات ونسبية صلاحيات تلك المؤسسات وتراتبية ومرجعية الفصل والاحتكام بينها.

ولنا بقيّة في الحلقة الثانية من هذا المقال...

Ali95312606@gmail.com