ونجت القافلة الأخيرة


  علي بن كفيتان
الأجواء ملبدة بالغيوم والقوات المسلحة المدعومة بقوات الفرق الوطنية في ريف ظفار تحقق تقدماً ملحوظاً بعد سنوات من سيطرة الثائرين على الجبال وخوضهم حرب عصابات لا هوادة فيها طوال 8 سنوات منذ إطلاق الحراك الثوري في يونيو 1965، كانت الأودية والكهوف تعج بالثوار المدججين بالسلاح الشرقي والمتعطشين للحسم الذي طال انتظاره لكن جميع الخطط توقفت وبدأت ساعة الزمن تعود للخلف منذ 3 أعوام عندما تولى مقاليد الحكم في البلاد سلطان جديد يتدفق في جسده دم الشباب، وخبرة عسكرية صقلتها أرقى الكليات العسكرية في العالم، ويحظى بمباركة أسرته الكريمة، ومدعوم بقوة من أخواله في الجنوب.
لقد أغلق الجيش خط هورينيو (خط من الأسلاك الشائكة ونقاط التفتيش يمتد من البحر إلى الصحراء) بإحكام واستطاع قطع الإمدادات القادمة من الغرب عن المقاتلين في المنطقة الوسطى والشرقية ومنذ تلك المرحلة فلا جدوى من التمترس خلف الضباب الخريفي مجدداً، ولم يتمكن الثوار من تمرير أي شحنة إمداد إلى المناطق المقطوعة وبات ذلك يشكل تحدياً وجودياً للثورة.
يقول الزمن إنه مهما كانت التحديات يظل هناك رجال قادرون على ترويضها فمثلما طوع السلطان كل السبل لنصر محقق عام 1975، بذل كذلك آخرون في الطرف الآخر كل طاقتهم للإبقاء على قضيتهم تتصدر نشرات الأخبار في إذاعة صوت العرب من القاهرة، وراديو مونت كارلو من باريس، وصوت الثورة من عدن كان الحماس المدعوم بسنوات الحرمان هما الوقود الذي أوجد محبة أزلية بين المحارب وبندقيته ورغم كل الانتكاسات التي صاحبت تلك المرحلة ظل هناك من بايع نفسه على المضي قدماً في قضيته حتى النهاية المؤلمة.
نوقش أمر الحصار المفرض على جبهات القتال في الوسط والشرق واتخذ قرارا بتسيير قافلة من الإبل المحملة بالغذاء والعتاد العسكري واختير لحمايتها أعتى المقاتلين وأمهر قادة القوافل شجاعة وثباتاً في المواقف الصعبة، خطط بدهاء شديد لوقت مرور القافلة من مرتفعات قرضيت شمال المغسيل عبر أضعف نقاط التفتيش في خط هورينيو وبالفعل مرت القافلة من الفتحة التي صنعها المقاتلون بكامل رجالها وعتادها دون اشتباك.
وفي الثلث الأخير من الليل تم رصد القافلة من نقطة تفتيش منخفضة وينسب لبعض شهود العيان حدوث اشتباك عنيف استمر لعدة ساعات أبلى فيه الرجال استبسالا منقطع النظير عن قافلتهم وحمولتها ولكن حضور الإمداد الجوي خلط الأوراق وحول المعركة إلى ملحمة عسكرية كان أبطالها قوات السلطان المسلحة والثوار المدافعون عن قافلتهم التي تعني الرمق الأخير لقضيتهم.
قال أحدهم كنت أتمترس وراء تلة، وخلفي رجل غريب يلبس ثياباً مدنية خليجية بيضاء ولديه سلاح الكند التقليدي غير الآلي حيث توازي كفاءة إطلاقه للنار بنادق الكلاشنكوف، لديه شارب كث، في لحظة انقطاع الاشتباك يعمد إلى غليونه الحجري ويعمره بالتنباك ويرشف عدة رشفات وبعدها يعود إلى الكند، سألته من أنت قال أنا رجل حر من قطر وكانت وظيفة هذه المجموعة على ما يبدو شغل الجيش عن القافلة عبر اشتباك مفتعل بينما بات من الصعب مرور الإبل المحملة خط هورينيو المحصن والمدعوم بغطاء جوي كثيف.
في غبار المعركة قاد القافلة رجل يعرف الطريق ويجيد التعامل مع الإبل فحركها إلى الشمال في وادي رصوق واستطاع إخفاءها وتمريرها بينما انسحب بقية المقاتلين إلى الجبال، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي وصل فيها الإمداد للثوار في الشرق وبعدها حسم جيش السلطان المعركة واستسلم المئات عقب صدور العفو السامي وانخرطوا لاحقاً في قوات السلطان المسلحة وساهموا بفعالية في تطهير بقية مناطقهم من الثورة التي لفظت نفسها الأخير ميدانياً في الحادي عشر من ديسمبر 1975وأصبح لاحقاً ذلك التاريخ يوماً للقوات المسلحة.

alikafetan@gmail.com