الحَـ(ــرْ) بُ جَـائـعة

هالة عبادي - سوريا


غادر أبو سعيد وعائلته بيتهم نازحين بسبب الأزمة التي اجتاحت البلاد ولم تتسن لهم العودة إليه قبل اليوم . وبعد أخذ الإجراءات اللازمة توجه برفقة زوجته وابنهما الوحيد للاطمئنان على الحال في بيتهم. الذي غادروه منذ اندلاع الأزمة كانت الأنباء التي تواردت إليهم والصور تحكي دماراً ليس بالقليل في مجمل الحي. لكنهم تواقون لمعرفة الخبر الأكيد بشأن البيت الذي كان ثمرة سنين كفاح طويلة.
مضى الركب تحدوه ذكريات تعج بالصور وحنين إلى أيام خلت في هذا البيت كانت تضج بالبهجة والحياة.. استعانت أم سعيد بذراع زوجها لتتجنب تعثر خطاها ببقايا الركام، بينما سعيد الابن الوحيد محمولاً على جناحي الشوق واللهفة بسبق والداه بأمتار عدة.
شوارع مقفرة وبيوت خاوية؛ وحدها خطواتهم تمزِّق الصمت المهيب المخيم على المكان وضحكات سعيد فرحاً بالعودة إلى مرابع الطفولة والصبا.
لن تجدها ... سلمى ليست هنا الآن،  لقد هاجرت مع ذويها ففيم العجلة؟ ضاحكة تصرخ أمه لكنه يمضي غير مبالٍ بصيحاتها المتكررة ولا بتحذيراتها.
كانا لا يزالان عند بداية الشارع حين وصل البيت تلفت يُمنة ويُسرةً وقبل أن يفتح الباب نادى بأسماء أبناء جيرانه دون أن يجد من يجيبه، وحين وضع يده على قبضة الباب دوى صوت انفجار عظيم.
عمد المسلحون - كعادتهم حين يغادرون أماكن سكنوها - إلى زرع لغم في بيت أبي سعيد.
وقف الأب يرقبُ ابنه وقد جمدت ملامحه، بينما ركضت الأم إلى الجسد المسجى تحتضنه وتتحدث إليه ...
-    سنبني سقفاً نلتجئ إليه، ستعود البلاد وستضحك لنا الدنيا من جديد.
-    لن تجوع بعد اليوم ولن تبرد أبداً .
كنت تقول"صوتك يؤنسني في وحشتي يبعد عني المخاوف " لِمَ لَمْ تناديني وتعلم أني لك سدٌّ في وجه الريح ... ثم هرعت نحو الشجرة اليتيمة في أرض الدار وراحت تنبش التراب تحتها، هنا سأدفن جذور البغضاء، وكما أقسمت لك سأرعى الحب لينمو... وصدى يتردد وحدها تسمعه محدثاً ضجيجاً يزعجها: "الحب مات منذ زمن طويل، وحدها الوحشة ترعى في الدروب، والمخاطر"
-    ماذا يستطيع الإنسان في وجه الحرب؟  يقرأ زوجها السؤال في ملامحها العاجزة ويجيب:
-    لابد من الاستمرار .
-    وقلبي المفعم بالحزن ...
-    وماذا نستطيع إزاء القدر العاتي.
تركته وعادت زاحفة إلى ابنها.
-    أصغ إلي وسأتركك بعدها تفعل ماتشاء، لك الحرية أن تحيا حياتك، لا شأن لي بها، ولن أتدخل مطلقاً بشؤونك الخاصة أفلا تجيب؟
-    كيف تتركني وحدي وتنام ؟
 يجيب زوجها:
-    هكذا فقدنا أحبتنا الواحد تلو الآخر ابتلعتهم الحرب.
-    لو لم يمت هو مات آخر، وإن لم نمت نحن مات غيرنا، لابد لأحد أن يموت على أية حال طالما الحرب جائعة.
اسمعي الواجب يدعونا والأخطار تتهددنا وهذه الحرب تزداد ضراوة وقسوة ولن تهدأ إن لم نواجهها دون حزن أو خوف.
-    أقصد ربما هو نائم؟
أخذ يهزها بعنف وغضب...
ركعت على ركبتيها الرحمة يا إلهي...
عانقها وسقطا معًا في موجة بكاء عارمة.

تعليق عبر الفيس بوك