السياسة الخارجية العمانية وإدارة الأزمات (1)

د. عيسى الصوافي – سلطنة عمان
دكتوراه في إدارة الأزمات


تقوم هناك مجموعة من الفواعل في رسم السياسات الخارجية للدول. وتُطلق الأدبيات السياسية على هذه الفواعل العديد من الأسماء والصفات فهي الثوابت، والمرتكزات، والمرجعيات، والمؤثرات، والمحددات.. وإلى غير ذلك. ومهما كان الاسم الذي نطلقه على هذه الفواعل، فإنها تجتمع كلها في كونها المحرك الأساسي المؤثر في نمط السياسة الخارجية للدولة.
وسلطنة عُمان لا تخرج عن هذا السياق، فهي بعد عام 1970 أصبحت دولة متحركة متجهة نحو الحداثة بكل مقدراتها ونحو التقدم في كل مظاهره والتطور على مختلف وجوهه.
واعتباراً لكون السلطان قابوس هو المحرك الأول الذي قاد الدولة العُمانية الحديثة فقد كان من المنطقي أن يقود صناعة السياسة الخارجية فيها، ولكن مع الاستعانة ببرنامج واضح ومحدد، وهو الانتقال في مراحل العمل الداخلي المشترك من الغيبية إلى المشاركة العامة، ولكن بشكل تدريجي.
ومن هنا، جاءت معظم مفاصل هذا البحث مرتبطة، بصورة أو بأخرى بشخصية السلطان وإدارته وقراءته للأحداث وتفسيره لها، ثم إعداد القرار لتتولى من بعده السلطات تنفيذ هذه السياسة.
لقد اتسمت السياسة الخارجية العُمانية بمجموعة من الصفات التي فرضتها حقائق التاريخ والجغرافيا والإمكانات الأمنية والاقتصادية والثقافية. وقد جاءت، في المجمل، سياسة هادئة، ومعتدلة، ومتوازنة، وحيادية. كما أنها كانت مؤثرة على المستويات: الخليجية، والعربية، والإقليمية، والدولية وموضع احترام وتقدير من جميع الدول.
وعليه، الإلمام بها يفرض علينا التعرض لنشأتها وظهورها ثم تطورها ثم الخوض بعد ذلك في المركزات التي تقوم عليها كلما تبينت الضرورة واستدعت الأوضاع الدولية اتخاذ المواقف وتحديد المواقع في المنتظم الدولي.

نشأة وتطور السياسة الخارجية العمانية:
لقد مرت السياسة الخارجية الخارجية العمانية في مرحلتين أساسيتين، مثلتا المناخ الزمني للحركية العامة للدولة العمانية:

أولا - مرحلة التكوين:
لم يكن قبل عام 1970م في سلطنة عُمان ما يسمى بسياسة خارجية بالمفهوم المطلق والمركزي، بل إنه لم يكن هناك أصلاً دولة بمفهومها العصري الذي تجاوز ثلاثية الأركان في تعريف الدولة. إضافة إلى أن نمط الإدراك لطبيعة العلاقات الدولية لدى السياسة العُمانية ما قبل مجيء السلطان قابوس كان يستند إلى مخرجات صراع القوى في الخليج وفي المحيط الهندي الذي كانت عُمان طرفاً فيه بصورة مستمرة. لذا، فإن الخبرة المستمدة من هذا الارتباط وهذا الاندماج قد شكلا معظم مكونات الفكر السياسي لدى القيادة  العُمانية آنذاك. وكان من مظاهر هذا الفكر أنه لم يعط أية أهمية أو أي اعتبار للأبعاد العربية أو الخليجية ومعطياتها، التي كانت في تلك المرحلة تسعى جاهدة لتشكيل نظام إقليمي عربي، يكون مرتكزاً للعمل العربي المشترك الساعي إلى تحرير الدول العربية من الاستعمار، أو من التبعية للغرب أو الشرق، وكان يعمل على إقامة نظام سياسي عربي له مضامينه ورموزه وله آليات عمله التي جاءت جامعة الدول العربية في مقدمتها.

لم ترض التوجهات السياسية العربية وحركاتها بموقف الدولة العُمانية، ووجدت أنها تسلك منهجاً ينأى بها عن التقارب العربي ومحاولات بناء المشترك من الجهد والنضال، الأمر الذي كرس العزلة العُمانية، إذ أن السلطنة كانت ــ آنذاك ــ عامل جذب عكسي وسلبي للعمل العربي الجمعي. واستمر هذا الوضع حتى تسلًم السلطان قابوس الحكم عام 1970م، حيث أدار السياسة الخارجية للدولة الحديثة على مستوى فهم جديد للمتغيرات التي أحدثها ميلاد النظام العربي، وإدراك مدى أهمية الانخراط العماني في التفاعلات السياسية في المنطقة، لذا، فمنذ اليوم الأول لتسلمه السلطة بدأ بالانفتاح على البلاد العربية، وبالتالي الخروج من العزلة التي عاشتها الدولة العمانية لفترة طويلة.
دخلت الدولة العُمانية في التفاعلات العربية، ولكن بصورة ممنهجة وآخذة في الاعتبار ذلك التمايز بين خاصيتين رئيسيتين في الطابع العام للنظام العربي:
أولهما: أن فترة السبعينيات من القرن العشرين قد شهدت حالات استقلال واسعة لدول منطقة الخليج، وبالتالي تعزز النظام الإقليمي العربي خاصة وأن عددا من هذه الدول قد شهد تدفقات نفطية وضعتها على خارطة الاستراتيجيات الدولية.
وثانيهما: بالرغم من ذلك، فإن النظام الإقليمي العربي شهد تمزقا بين مفهوم «القومية»، مقابلاً لمنطقة «الدولة» والمنطق القطري الذي يستند إلى واقع التجزئة لعربي، ومنطق «الإسلام السياسي» الذي وجد دعماً من داخل النظام العربي ومن خارجه، خاصة بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، وبعد ازدياد التوجهات التركية إلى مزيد من «التغريبية».

كما دخلت السياسة الخارجية العُمانية مرحلة التكون القائم على فهم محددات هذه السياسة ومكوناتها والعوامل المؤثرة فيها وأدوات تنفيذها. ومن أهم هذه الاعتبارات والفواعل إدراك أن السياسة الخارجية لأية دولة قائمة على أساس الارتباط المباشر والمعمق بينها وبين السياسة الداخلية ومؤسسات الحكم المحلي. لذا فقد بدأت السياسة الخارجية العُمانية تؤكد في أسلوبها على:
(1)    الأخذ بالحداثة، ولكن مع عدم إغفال الموروث التاريخي.
(2)    البعد عن إقحام الذات في شؤون الآخرين، وهو الأمر الذي عانت عُمان منه كثيراً.
(3)    خلق دوائر متقاطعة بين البعد المحلي وكل من البعدين الإقليمي العربي والدولي.
(4)    اعتماد منهجية التخطيط، وذلك بإتقان قراءة الأوضاع المحيطة بالدولة.
(5)    الانحياز إلى الحلول السلمية في التعامل مع كل المنازعات التي تكون هي طرفاً فيها، أو تكون في دائرة سكنها الإقليمي، أو الخليجي.
(6)     الواقعية والحياد.
(7)    الالتزام الديني والعروبي.
(8)    اعتماد الحوار كوسيلة لاستخلاص الحقوق المشروعة.
(9)    انتهاج سياسة حسن الجوار.
(10)    الوقوف إلى جانب القضايا العربية والإفريقية، وقضايا الدول النامية.
(11)    تحقيق الأمن الإقليمي الخليجي بالاعتماد على قدرات دول الخليج.
(12)    انتهاج سياسة التعقل وعدم الانحياز.
(13)    التحذير من أي تطور للخلافات العربية ــ العربية.
(14)    احترام القوانين والأعراف الدولية.
لقد أدركت عُمان أن التخطيط والتنظيم هما أساس صياغة استراتيجيتها الخارجية، على أن يتم ذلك عبر بناء خطاب سياسي يلتزم بما يتفق والثوابت للدولة، ويتوافق مع إمكاناتها وقدراتها(1)، وذلك حتى يأتي القرار السياسي منسجماً مع ذاته، وأن يكون متواتراً على صورة واحدة يحكمه «الثابت» ولا تحكمه الآنية والمرحلية.
وبناء على هذا التوجه، جاء الإطار النظري للسياسة الخارجية العُمانية محدداً تماماً للمنهجية المعتمدة على فكرة التخطيط المسبق، والقائم على الواقع التاريخي وموروثاته، وعلى الواقع العلمي التطبيقي المُعاش.

تعليق عبر الفيس بوك