أنين الرافدين

عبد الله زيادة - فلسطين


إن ما استدعى الغرابة
أن ترى الفيّل َصغيرا ً،
خادماً تلك الذبابة،
أن ترى الليل طويلا،
والنهار له وسّادة
والأسّودَ غدوا عبيداً،
والفئران سّادة
والنفّاق غدا احترامًا
وسمّوًا وسعادة
والأعراب لها زئيرًا
يخشى َ من تلّك الدجاجة
قد غدّت بغداد ُ تمضي
في السماء كما السحّابة
حبها في القلب ينمو
حبّها دومًا عبّادة
بغداد ُ أين الصُبّح، أين حقيقة النصّر،  لماذا أراك ِ تتشّحين بالسوّاد؟ هل هذا حُلّمُ النائمين عن واقع الحزن؟ هل ما زلت ِ تنتظرين ذلك الفارس الهُمّام؟ لن يعود لأنه على حدود ِ الصمّت ِ بعدما امتلأت شوارعك بالثرثرة الفارغة، وضاقت القلوب بخناجر الغدر، وإقيمّت الأعراس في رحيّل الأسد، فكانت النتيجة مدينة ً من الماء احترقت بنّار سيجارة ٍ واحدة لجموع ٍ من المدّخنين الحمقى.
في الصحراء رأيت المشردين من وجع عروبتهم جثثا ً هامدة، الرمال قناعا ً على أجفانهم تخفي الدموع التي تذرف على خجل، في الصحراء رأيت دجلة والفرات حقيقة!! يفرون من سراب الوطن يبحثون تحت الشمس عن صبر الجمل بعدما غدت كل ذكرياتهم أحلامهم في خيوط الكفن.
دخل َ الأجنبي ُبغداد َ من كل نوافذها المطلة على كل صفحات التاريخ، توقف في ساحة ِ العباسيين قليلا ً ثم تابع في إيقاظ ِ الفجر ِ الذي لم ير ساكنيها أحلك َمنه، وقت الظهيرة تناول الدخلاء كل تمّر ذلك الشارع الفسيح كوجبة ٍ مؤقتة أو لربما استراحة موجزة من أعباء ذلك السفر الطويل، تجمع حولهم بعض المّارة يستفسرون عن هذة الزيارة المفاجئة، فلم يرو أغرب من هذا الضيف ِ المقنع بالدبلوماسية الحمراء! أخذ الليل ُ يقترب،وكل بغداد تسأل أين القمر؟ لماذا السماء ملبدة بالغيوم القاتمة هكذا؟ بزغ فجر ُ اليوم التالي، وعمر ُ بغداد تجاوز عمر البارحة بأكثر من النصف، هرّمت في. يوم ٍ وليلة بعدما كانت بالأمس فقط في مقتبل عمرها الوردي  رأيت ُ التجاعيد تتسلل ُ لوجهها الباسم عنّوة ً لم تعد تتحدث سوى عن جرحها الغائر ماذا فعل الدخلاء بها؟ ما كل ذلك الحقد الذي أحضروه في ثيابهم.. أتساءل الآن؟  لماذا كبّرت كثيرا ً يومها ربما لأن تاريخها العريق  جعلها الكبيّرة ُ دائما ً أو ربما لأنها شعرّت باليتّم  كم كانت مدينةً ساحرة تعجُّ بالجمال الخلاب، لكنها اليوم يائسةتقف ُ على ضفاف ِ نهريّها وترتدي لثّاما ً غريب الملامح عربي اللغة كان جزء ً منها يُدعى أحمد مطر يرثي ذكرياته في أزقتها يقسّو بحنية الوفي  يجلد الواقع دون تردد في المدينة المدورة تدور الأرض حولها دون توقف  كأنها نجم ٌ يُنافس ُ الشمّس جمالا ً بل قطعة ً من الجنّة  لذا فكل أمتعة ِ الغرّباء كانت تختبئ في جرحها النازف لم تعد اليوم سوى مدينة ً من الماضي فكل شيء تغيّر  حتى في نومها تصحو باكية  ماذا لو عاد المتنبي فجأة ً لربما سيجمع كل ثقافته ويختصرها في اسمها سيصنع مئات القصائد رثاء ً لحاله وحالها سيزرع الورّد بين الركام  سيشيّد ُ الفجّر فوق الأنقاض لا شيء يمنع العاشق من التضحية  ولا قيود تقيّد الفكّر فالزوراء مدينة الحضارات  لا شك في ذلك  مهما بلغ الحسّام من ذبّح عنقها  مهما رأيت الجواد الأصيل في الأسطبل الماكر  وحيدا ً دون فارسه الذي صنع البطولات مهما إشتدت النوائب ستظل بلاد الرافدين محطة ُ الحياة  وصفحة المجد ..في تاريخ ٍ هي من دون حروفه
هي من رسّم معالمه ستظل ما دامت أنهارها تصّب ُ في فؤادها المتعب  ستظل لأنها بغداد ولا شيء أكبر من ذلك
لأنني
كنّت ُ واثقا ً
أن تلك الذبابة
أصغر من أن  تجهد حذاءك
في إخفاءها..مهما بلغ ضجيجها الصاخب.

تعليق عبر الفيس بوك