أسعار الطيران تثير الرأي العام!

د. عبدالله باحجاج

منذ يوم الأربعاء الماضي (17/1/2018م) انشغلتْ وسائل التواصل الاجتماعي، وشغلت الرأي العام في بلادنا، بخبر ارتفاع أسعار تذاكر الطيران العُماني على الخط الداخلي مسقط-صلالة-مسقط، وقد اطلعنا في هذا اليوم على الوضع ميدانيا، والتقينا مسافرين دفعوا في ذلك اليوم أكثر من 80 ريالا ذهابا وإيابا، وآخر دفع 90 ريالا ذهابا فقط، وكلا السعرين على الدرجة السياحية، وبعض مواقع التواصل الاجتماعي عرضت أسعارا نقلا عن مصدر إلكتروني للطيران، أسعار تصل إلى ما بين 100-120 ريالا للدرجة السياحية.

وبعد أن اشتدَّت حدة الموقف في التواصل الاجتماعي ضد الأسعار، اختفت من حاسوبات الحجوزات في اليوم التالي أسعار التذاكر المرتفعة والخيالية، وسادت الأسعار الأقل منها، وتحديدا 60 ريال ذهابا وإيابا، ورغم أنها مرتفعة إلا أنها لم تستمر، فخلال الساعات الماضية مثلا، زرنا مكتب الطيران في صلالة، ووجدنا عودة الأسعار المرتفعة فعلا، فمثلا سعر التذكرة التي كان سعرها 42.900 ريال ذهابا وإيابا، أصبح 64.900 ريال، وفي ليلتها، دفع أحد أفراد أسرتنا 84.900 ريال على طائرة الفجر، وفي الوقت نفسه، اتصل صديق آخر عبر خدمات الهاتف، ووجد السعر 74،900 ريال للوجهتين.

ماذا يعني هذا؟ يعني أن الأسعار قد تجننت، وسيُجَن معها المجتمع؛ لأنها ترتفع في توقيت أصبح الكل يعرفه، ويدرك حمولاته وضغوطاته على المجتمع، ويعلم الكل ما ينتظر هذا المجتمع من أعباء ضريبية ومالية جديدة من الآن، وحتى تطبيق ضريبة القيمة المضافة عام 2019، لماذا ترتفع الأسعار؟ ولماذا الآن بالذات؟ وما هي خلفيات الموضوع؟ وبعيدا عن الجدليات المصاحبة للارتفاع، ماهية وحجما، وحدتها الملتهبة في وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك عن مدى قانونية الارتفاع من عدمه، رغم أهمية معرفة ذلك من منظور قانون المنافسة ومنع الاحتكار، فإننا سنحاول هنا أن نحكم العقل في مسألة مسلسل ارتفاع الأسعار على ناقلنا الوطني، ونفتح القضية من منظور عقلاني لعلنا نَقنع باستدراك جنون الأسعار، قبل أن يُلقي بتداعياته على المجتمع المتعب ماليا، والسائر في طريق التعب أكثر فأكثر، وهنا نستحضر وبقوة، وبصوت عال، "البُعد الغائي" الذي من خلاله ينبغي أن تلتزم شركات الطيران الوطنية به في تحديد أسعارها الداخلية، مراعاة له، وهذا البعد هو الذي يقف وراء إقامة طيران خاص بأسعار اقتصادية منخفضة التكلفة، ومن هذا الاتجاه المهم جدا، نطرح التساؤلين العقلانيين جدا:

- هل ينبغي تعويم أسعار التذاكر على خط داخلي، أم أن المصلحة العامة تحتم تثبيته؟ فالأسعار قد أصبحت أقرب للتعويم، وبالية ليبرالية حتى على نطاق الرحلة الواحدة، فمقاعد الطائرة الواحدة، موزعة على سلة أسعار، متصاعدة، وهذه آلية قديمة، لكن حدتها ظهرت الآن بعد ارتفاع سقف الأسعار.

- هل حققت تجربة أول طيران اقتصادي منخفضة الأسعار في بلادنا، الهدف الاجتماعي منها؟

- هل وراء رفع الأسعار على الخط الداخلي اتفاق بين شركتي الطيران؟ وهذا التساؤل نعلي من شأنه هنا، بعد تغريدة سعادة المهندس محمد أبوبكر الغساني، التي قال فيها حرفيا: "... أما محليًّا فقد توحدت رغبة الشركتين "محتكرات الخط المحلي" في رفع السعر"، ويضيف كذلك قائلا: "كنا نعول على طيران السلام في كسر الاحتكار، وتوفير خيار آخر أقل تكلفة،  خاصة في المواسم".

وقد كان الهدف من وراء إقامة الطيران الاقتصادي، غاية داخلية بامتياز، لكي يحافظ على وحدة النفسيات الديموغرافية، وتخفيف الثقل المالي على تواصلها داخل وحدتنا الترابية، فلا يعقل أن يكون سعر التذكرة الداخلية أغلى أو في مستوى التذكرة بين دولتين، وخيار الطيران الاقتصادي وراءه كذلك الظروف المالية الصعبة للمواطنين قبل أن تدشن بلادنا مرحلة تحولاتها الاقتصادية والمالية بسبب انخفاض أسعار النفط، فكيف الآن؟ وهذا يتعزز في مرحلة الجبايات والضرائب المقبلة، وما يتزامن معها من تعطيل مسيرة تحسن المعيشة منذ منتصف عام 2011، فالظروف المالية للمجتمع ستتأزم أكثر في مرحلة ضريبة القيمة المضافة، التي سترفع الأسعار في معظم مناحي حياتنا، حتى لو طرأت زيادة في الرواتب مثلا. من هنا، فهل ينبغي تخفيض أسعار التذاكر على الخط الداخلي أم رفعها؟ ليس مقبولا رفع الأسعار مهما كان حجم زيادتها، كبيرة أم صغيرة، وليس مقبولا كذلك عدم عودة الأسعار لسابق عهدها حتى الآن، وما حدث ويحدث حتى الآن، لن يخدم الأهداف الوطنية في ظروفها السابقة أو اللاحقة؛ فالخطوط الداخلية لابد أن تكون متاحة، وفي متناول الأسر، ولو كانت الآن كذلك، لربما كان ذلك من دواعي التنفيس الاجتماعي في مرحلة الاختناقات المالية المحكمة. أما الحكم على الديموغرافية بالبقاء داخل احتقاناتها الترابية والمالية؛ فذلك ينتج سيكولوجية معقدة، ومتأزمة، ومنشطرة على ترابيات تقطنها جماعات محلية، تحس بها بصورة مبالغة، بسبب تقوقعها فيها، وعدم توافر وسائل تواصل متاحة لها وفق إمكانياتها المالية وظروفها الاجتماعية، والأخطر هنا ما يوفره الطيران الإقليمي لدول الجوار من إمكانية للسفر اليه؛ فإحدى طائرته تقدم سعر 60 ريالا ذهابا وإيابا، ومباشرة أي بدون التوقف في مسقط، هل هناك من يحلل ويستشرف الأبعاد النفسية-الاجتماعية المترتبة على تعقيد إمكانية التواصل الطبيعي بين مكوناتنا الترابية، وسهولة التواصل مع دول الجوار؟ ومن تلكم البواعث الوطنية، انبثقتْ فكرة الطيران الاقتصادي منخفض التكاليف، فهل تجسدت هذه الفكرة على الأرض؟ وهل أسعاره في المتناول الاجتماعي؟ وهل رحلاته تغطي الطلب على الرحلات الاقتصادية؟ وهل فتحه خطوطا خارجية، إقليمية ودولية، يُؤثر في البُعد الغائي الأول من إقامته على الخط الداخلي؟

تساؤلات جديرة بالطرح، والتأمل فيها، وإن كان هذا لا يعفي ناقلنا الوطني من مسؤوليته الوطنية تجاه أسعار التذاكر الداخلية، فهو حكومي أولا، ومدعوم ماليا وبصورة سنوية، ورغم ذلك، يعلن سنويا عن خسائر، فما الحل؟ الحل خصخصة الطيران، وهذا مطلب اجتماعي، وتوفير السيولة المالية لخدمة أغراض أخرى، وكذلك السماح بناقل وطني متخصص حصريا في الرحلات الداخلية فقط إذا كان الناقل الاقتصادي سينشغل كذلك بالخارج، وما نطرحه في هذا المقال من إشكاليات وقضايا، ينبغي على مجلس الشورى فتحها وفورا مع هيئة الطيران المدني ومع الوزيرين المشرفين على الطيران العماني وعلى مركز المنافسة وعدم الاحتكار، وينبغي أن ينتج عنها مسألتين؛ الأولى: عاجلة، وهى عودة الأسعار السابقة إلى ما قبل يوم الأربعاء الماضي، ومساءلة من يقف وراء عملية رفعها لعدم الوعي بالمرحلة وحساسيتها، والثانية: تقديم توصيات للحكومة بخصخصة الطيران العماني، وبالسماح بناقل اقتصادي متخصص بالرحلات الداخلية فقط فقط فقط، وتكون سعر تذكرته 30 ريالا فقط؛ فالمرحلة المقبلة، لو استمررنا فيها بالأجندة المخططة لها، ستشكل لنا تحديات كبرى، لابد من إدارتها من الآن، ورفع أسعار الخط الداخلي بعيد كل البعد عن المواجهة الآمنة للتحديات المقبلة.