تحت جلدي مقبرة

...
...

الخضر الورياشي – أديب وناقد - المغرب

ديوانٌ يصلُحُ أن يقرأه الإنسانُ وحيداً، بعيداً عن الناس والضجيج والحضارة والمدينة، ولا بأس أن يقرأه الإنسانُ في مقبرةٍ !

لأن الديوانَ حزينٌ، صادمٌ، مفجعٌ، وكأنه مرثية عُمْرٍ، وكأنه آخرُ كلماتٍ يقولُها شاعرٌ لنفسه، قبل أن يقولَها للآخرين، وهو لا يهمُّه الآخرون، هو تهمه نفسُهُ الحائرة، الحالمة، الحزينة، في عالمٍ يكثر فيه كلامُ النساء الثرثاراتِ والعجائز والعاهرات والسحرة، وأحلام الأطفال التي لا تتحقق حين يكبرون، ويصيرون رجالاً.

إنَّ أكثر كلمة وردت في الديوان، هي كلمة (الوحدة) في تصريفها المختلف، وقد جاءت غالباً مفردةً، وبصيغة (وحيد)..

ولعلَّ صديقنا الشاعر "علي أزحاف" يشعر بهذه الوحدة شعوراً مفرطاً، ويعيشُ حلاوتَها ومرارتَها، ويكرهها ويحبُّها في نفس الوقت، ويفكر أحياناً أن يتخلَّصَ منها لكنه يعشقُها، والعشقُ أقوى من التفكير، والشعراء أكثر الكائنات وحدةً!

لستُ ناقداً متخصِّصاً في الشعر، لكن أشعر بكلمات الشعراء، وبخاصة إذا كانت من فيض أعماقهم وأوجاعهم، وكانت تخرج منهم في لحظات حزن ووجْدٍ وشكوى وحيرة ومعاناة، ولا أقصد معاناة الجسد، وإنما معاناة الروح.

وروح الشاعرِ في الديوان تعاني، وليس اعتباطاً أن يبدأ الديوانُ بحديث عن (الشيخوخة)، وأن يمتلئ بحديث عن القبور، وعن الليل، وعن السكارى، والدراويش، والعاهرات، والعجائز، والأطفال، والفقراء.

كأن "علي أزحاف" نثرَ مقتطفات من سيرته الذاتية في هذا الديوان، وكأنه يستعيد من خلاله أيام الطفولة، وأحلام المراهقة والشباب، وعنفوان الرجولة، وأنواع الصداقات والاهتمامات والانشغالات!

اقرأ نصَّه الجميل: (حفلة تنكرية) ص 42، وهو يتحدث فيها عن طفولته، ثم ينْعاها في آخر النص، تشعر أنه يتحدث عن طفولتك أيضاً؛ لأنك ستجد فيه ملْمحاً من ملامح طفولتك وملامح أصدقائك (في الجهات الأربع للحياة).

أما نصُّه عن (الفقراء) صفحة 68، فهو نصٌّ عميقٌ حيٌّ ببساطته، وليس بالاعتماد على أي فلسفة أو نظرية أو إيديولوجية:

الفقراء لا يمارسون الرياضة،

ليس لأنهم لا يحبون الرياضة،

بل لأنهم فقراء.

هكذا يتحدث "علي أزحاف" عن الفقراء ببساطةٍ، وهو أمرٌ واقعٌ، وحقيقيٌّ؛ فالفقراء فعلاً لا يمارسون الرياضة لأنهم ببساطة فقراء، فالرياضة من شأن الأغنياء فقط.

وقد لا تهتز لهذا المعنى البسيط، لكن أؤكد لك، أن باقي المعاني ستهزك تماماً، مثل هذا المعنى:

وحين يجنُّ الليلُ،

ينامون ببطونٍ فارغةٍ،

مثل عقول الحاكمين،

أرأيت كيف ربط الشاعرُ بين فراغ بطون الفقراء بفراغ عقول الحاكمين؟.. أليس في هذا الربط نقدٌ لاذع للحكام وللسياسيين؟!

في الديوان أيضاً إشارات كثيرةٌ إلى أسماء متصوفة مشهورين، مثل "الحلاج" و"ابن عربي"، وإشارة إلى "أبي نواس"، وإلى شعراء وروائيين وفنانين ورسامين وموسيقيين عالميين، أقوى ما يجمعهم، ويشترك معهم "علي أزحاف" نفسُهُ، هي (الوحدة)... والوحدة هي رفيقة الشاعر الوفية، وهي حبيبته المخلصة، وهي زوجته الأثيرة، وهي إلْهامه ووحْيه من المهد إلى اللحد، ولم يكن غريباً أن يجعل عنوانَ ديوانه: (تحت جلدي مقبرة)، لكنها مقبرةٌ حيَّةٌ بالمعاني الإنسانية الفياضة، ولوْ أنها حزينةٌ، موجعةٌ... !

تعليق عبر الفيس بوك