وجوه وقلوب

 

سما حسن

مثل كل حارةٍ قديمة يجب أن ترى العبيط يتجول فيها، حيث يقذفه الصبية بالحجارة، ويركضون خلفه بالشتائم، ولكن في حارتنا في ذلك الزمن البعيد لم نكن نركض خلف العبيط الذي ربما اغتنى بعد سنوات وأصبح من أصحاب الملايين كما يحدث في الأفلام العربية، وهو يعود غالبا إلى حارته لكي يستعرض ماله، ولكي ينتقم وهو يتحسس آثار صفعة أو لكمة على وجهه أو ظهره.

 في حارتنا كنا نهرول هربا من شخص غريب الشكل، فهو قد خلق بلا أذنين، كما تجزم الجدّات ويؤكد الأجداد، لم يكن أحدنا يعرف له أهلا ولا بيتا سوى أنّه يتجول في الحارة وينام في العراء، ويلتقط طعامه من أيدي أهل الحي، فيما يخافه الجميع وهم يتوقعون منه شرا مستطيرا.

بالنسبة لي وكطفلة كنت أشعر بالرعب منه، ولو مررت بجواره ولو بمسافة تكفي للهرولة وإطلاق الساقين للريح فإنني أقضي ليلتي بلا نوم وأنا أتذكر نظرات عينيه ووجهه الأسمر المحترق بفعل أشعة الشمس، وكذلك آثار حرق قديم على صدغيه يمتد حتى رقبته، حتى ذهبت الجدات في حبك أسطورتهن بأن النار قد أتت على أذنيه فذابتا بسبب اللهب حين كان صغيرا، وحيث تركته أمه في البيت الصفيحي، وتسللت لتلتقي بعشيقها في غياب الأب فعاقبها الله بأن احترق طفلها وذابت أذنيه بكاملهما.

بقيت أشعر بالرعب من هذا الكائن لسنوات حتى حين أصبحت في المرحلة الثانوية، وأنا أمر عن بعد ولكن أراه يقف ويتأمل من حوله، وقد أنقذني ذات مرة من الوقوع في بركة ماء متجمعة في وسط الشارع بسبب المطر ووعورة الطريق؛ أسرع وانتشلني من البركة بعد أن انزلقت قدمي عند حافتها وكدت أقع، كما أنني شعرت وقتها أنه يمتلك قوة جبارة فقد حملني كريشة ووضعني على الجانب الجاف من الطريق، وكانت هذه المرة الأخيرة التي رأيته فيها وكل ما عرفته بعد ذلك أنه أصبح يعمل في معمل للأسمنت على أطراف المدينة.

سنوات طويلة مرت ولكنّي لم أنس الرجل الذي لم تكن له أذنان، وكان الناس يخافونه، ويتضاحكون عليه في نفس الوقت، ويطلقون عليه التشبيهات المؤلمة، وكان يتقبّل كل ذلك في صمت حتى اعتقدوا أنّه بلا قلب أو شعور كذلك، فأوغلوا في تعذيبه وتفننوا في إيذائه، وقد تذكرته وتمثلت صورته أمامي حين قرأت قصة لمسخ بشري يشبه هذا المسخ الذي يرقد في براد ذاكرتي وهو البريطاني "جوزيف ميريك" الذي ولد في العام 1862م، وقد ولد بلا تشوهات حتى عمر السنتين حين بدأت تظهر عليه التشوهات في الوجه والرقبة وتحول وجهه إلى وجه فيل صغير، وأصبح مرعبا وذهب الناس إلى أن أمّه تعرضت للاعتداء من فيل في السيرك فأنجبته، وقد نال جوزيف صنوف العذاب من البشر وألحقوه بالسيرك لكي يتفرج عليه الناس ويكسب صاحب السيرك من وراء ذلك الأموال، حتى التقاه طبيب اسمه تريفيس فعرض عليه مساعدته ووافق بعد تردد خاصة حين علمت الملكة فيكتوريا بقصته ومنحت الطبيب كل الصلاحيات لعلاجه، وأدخل المشفى وتلقى الرعاية الطبية ثم انتقل لقصر الملكة، وأصبح له محبوه الذين أغرموا بحديثه وتهذيبه وثقافته، واكتشفوا مدى شغفه بمسرحيات شكسبير فكان يحللها ويكتب الروايات ويصنع المجسّمات الهندسية الجذابة، وظل على هذا الحال حتى توفي فجأة بعد أن حاول النوم على ظهره فاختنق بسبب كبر حجم رأسه، وقد مات في سن الثامنة والعشرين وبقيت سيرته الطيبة بعده.

بعد قراءتي لقصة المسخ جوزيف الذي عانى من ظلم البشر، وأنّهم لم يكونوا يرون إلا وجهه، تذكرت المسخ الذي عاش في حارتنا وتمنيت أن ألقاه، وكأن أمنيتي وجدت باب السماء مفتوحا فرأيته للمرة الثانية بعد سنوات أمام غرفة العناية المركزة حيث كان يرقد أبي، ولهول ما رأيت كان يبدو ثريا ودموعه تسيل، وعلمت أنّه قد أثرى من تجارة الإسمنت، ولم يجد امرأة تقبل به مثل البريطاني جوزيف الذي قال: أتمنى لو تحبني امرأة ولو كانت كفيفة، فتبنى طفلا وربّاه حتى أصبح شابا، وأصيب في حادث سير ودخل العناية المركزة حيث وقف هذا القلب يبكي خارجها، نظرت له نظرات متفرسة لاحظها، تأكدت أنّه يملك قلبا ولديه مشاعر ودموع وليس مثلما اعتقد الناس منذ زمن أنّ المسوخ لا تملك قلوباً.

تعليق عبر الفيس بوك