مواجهة الوعي الزائف

 

أ.د/ يوسف حطيني – أديب وأكاديمي فلسطيني – جامعة الإمارات

على الرغم مما يمكن أن يثار من ملاحظات فنية حول رواية "الرولة" للعماني يوسف الحاج، فإنها تبقى نصاً روائياً جديراً بالقراءة، فالانتقادات التي يسوقها منتقدوها لا تنطلق أبداً من معرفة نقدية، بل من غيرة غير مسوّغة على ما يرونه خدشاً للمنظومة الأخلاقية التي تحكم المجتمع، ويبدو لي أن كلمةً نابيةً واحدةً في الرواية (ص19) كان من الممكن أن تمر مرور الكرام، إذ سبق أن طبعت روايات مليئة بما يخدش اللغة والحياء والأخلاق دون أن تلقى الانتقادات ذاتها. وفي ظني أن السبب الحقيقي الذي قاد إلى تلك الانتقادات هو تجرّؤ الكاتب على مواجهة الوعي الزائف الذي يحكم بعض فئات المجتمع العربي، عبر الاتجار بالدين واستغلاله من أجل كم الأفواه، وتحقيق المصالح الضيقة.

تعالج الرواية مرحلة زمنية مهمة من مراحل تطور المجتمع العماني، في قرية ساحلية؛ حيث يرى بعض المنتمين إليها أنّ التطور الذي قد تشهده هذه القرية يكسر المألوف الذي آمنوا به عن جهل، وهذا ما يدفعهم إلى خوض صراعات خاسرة، دون أن يستسلموا، فيبتدعون وسائل جديدة في كل محطة، للحد من طموح الآخرين في التخلص من الفقر والجهل والتخلف، ويعززون سلطة رجل الدين المستغل الذي يسعى إلى تكريس الوعي الزائف رافضاً إنشاء مدرسة، حتى لا يتعلم الطلاب العلوم غير الشرعية التي تقود إلى الإلحاد، كما يزعمون، وحتى لا يعي الناس ما يجري حولهم، لأنّ الناس في حالة الوعي سوف يسحبون من تحت أرجلهم بساط النفوذ.

*****

تجري أحداث رواية الرولة، في قرية بئر مراد الساحلية، في نهاية الستينات، أو بداية السبعينات، حيث تستعد عُمان لنهضتها الجديدة. وعلى الرغم من الهدوء الظاهري الذي تفترضه قرية نائية، فقد كانت هذه القرية تمور بالصراعات الطبقية والدينية؛ إذ ثمة فريقان أساسيان فريق متململ يمثله والد السارد، وصديقه موسى، وود جابر فيما بعد (وجلال إلى حد ما)، وفريق يؤمن بالجمود يمثله خليفة ومبارك والمنتفعين من نفوذ الشيخ والوالي، ويتمحور الصراع في إرادة التطور وفي محاولة كبحها، وتتخلله تفاصيل أحداث تكشف جوانب مجتمع الرواية في تلك الآونة.

*****

يعرض علينا يوسف الحاج روايته من خلال شخصية فتى، يسرد الأحداث من الداخل، ويشارك فيها، فهو ليس سارداً محايداً، بل يؤثر في الأحداث، ويتأثر بها، وتشفّ ردود أفعاله عن توق للحرية، كما تنم تلك الأفعال التي يقوم بها السارد والمواقف التي يتخذها عن نبل إنساني، يدفعه إلى رفض فكرة اغتصاب ابن خاله درويش من قبل سليمان، وتبني فكرة الانتقام منه (ولو نظرياً)، ويدفعه إلى التعاطف مع غريق غريب، رفض الإمام مبارك أن يدفن في مقبرة القرية.

إنّ شخصية السارد تخوض صراعاتها داخل ذاتها، وليس فيها من القوة ما يؤهلها لتوجيه تلك الصراعات نحو أضدادها، شأنها في ذلك شأن شخصية درويش، وإذا كان درويش قد بدأ شخصية بسيطة في بداية الأحداث، فقد حولته حادثة الاغتصاب التي تعرّض لها شخصية ذات كثافة سيكولوجية عالية، إذ أصبحت ردود أفعاله أكثر حدة، قبل أن ينتهي ذلك إلى فعل مدوٍّ تجلّى في انتحاره الفاجع.

*****

أما الشخصيات التي كانت تحمل مخاض مشروع ما تسعى إلى تطبيقه (على محدودية المشروع وهلاميته) فيمكن حصرها في شخصيتين رئيستين هما والد السارد/ أحمد، وموسى، وينضم إليهما ود جابر لاحقاً، في حين يمكن أن نعدّ جلال ثائراً من نوع خاص..

الأب الذي سافر إلى الكويت من أجل العمل، ربما من المبالغة أن نسبغ عليه صفة المثقف الثوري، على الرغم من أنه كان يقرأ، وكان من القليلين الذين يعرفون الكتابة في مجتمعات الجهل والتخلف، إذ لم تتعد حدود ثورته الدفاع عن فكرة التطور ذاتها، فقد عاد من الكويت محملاً بالأشياء الغريبة: كالفونوغراف والمذياع والقناديل التي تعمل بزيت الكاز، وغير ذلك، واصطدم بأن ما لديه لا تقرّه شريعة إمام المسجد التي تحرّم الغناء، وتحرّم آلاته، وهذا ما يضعه في المجابهة.

أما موسى فله حكاية أخرى، إنه يشبه الرولة في صموده، وإذا كانت الرولة تجابه قدرها الصعب بصمتها، فهو يواجه الجميع بسخريته، ومقالبه الطريفة، وقد حاول السارد (ومن ورائه المؤلف) تفسير شخصية موسى، في تدخلٍ مباشر لا نقرّه عليه، إذ قال عن موسى، بلغةٍ يعجز عنها الفتى السارد، ص ص84ـ85.

هذا الهازل الساخر محمّل بخيبات الحب، إذ عاش تجربتين مخفقتين، يغدو جاداً في مواجهة فتاوى مبارك وخليفة اللذين يمثلان المنتفعين بالدين، ولابد من الإشارة إلى أن كلاً من أحمد وموسى لم ينطلقا في مواجهة خليفة ومبارك من موقف إلحادي، فقد كانا يصليان، ويحضران خطبة الإمام ذاته، ولكنهما أرادا أن يخلّصا الدين من الذين يستثمرونه.

أما ود جابر، فقد اخترق الرواية في ربعها الأخير، وهو ذلك الشاب الأنيق الذي غادر القرية من سنوات مبكرة عائدا إلى قريته قبل أن يسافر إلى الخارج، وتنبع أهمية هذه الشخصية من كونها شخصية تنويرية، وليس من قصصها الماضية مع بنت خماس التي لا تضيف شيئا ذا قيمة للسرد، فهو يقف إلى جانب موسى وأحمد، ويقترح (في أول خطوة عملية) رفع عريضة يوقع عليها الأهالي للشيخ لرفعها إلى مكتب الوالي من أجل الطريق والمدرسة والكهرباء.

أمّا جلال الرجل السبعيني الذي ناضل إلى جانب الشيخ في الدفاع عن كرامة الوطن بصدر مفتوح للرصاص، فقد خرج من كل ذلك كلّه بمنزل وحمار، لم يسمح له مبارك بدفنه، ليخرج في مشهد مثير غير متوقع بيته عارياً، حاملاً سكيناً؛ كي يلاحق مبارك الذي هرب ليحتمي بالآخرين، وكانت هذه ثورة غير مسبوقة، إذ لم يواجه أحد من قبل فتاوى مبارك بهذه القوة.

*****

أما مبارك، ومن ورائه خليفة، فهو يبدو أقرب إلى كونه نموذجاً، لا شخصية نامية، إذ يستطيع المتلقي أن يتوقع جميع ردود أفعاله الناتجة عن فكر جاهز لقمع أيه فكرة، من خلال إصدار فتوى، قد تصل إلى منع إقامة شراكات تجارية تمكّن الناس الذين يبغضهم من تحصيل أرزاقهم.

أنه المعلم الذي تنخلع منه قلوب الطلاب رعباً، وهو المفتي الذي يفتي بالغناء وأدواته، مشيراً إلى أنها محرمة بالإجماع، المعازف والمزامير والطبل، ويستشهد بأحاديث ومواقف تنتزع من سياقها، ليصل إلى نتيجة مفادها أن العلوم التي تدرّس في المدارس تفضي إلى الكفروالإلحاد".

* * *

أماّ فيما يتعلّق بلغة الرواية، فقد جاءت سهلة إخبارية، لم يبذل الروائي فيها جهوداً كافية ليرفعها إلى مرتبة الجمالي، إذ قلّ أن نقرأ عبارة تنطوي على مجاز ما من مثل قوله: "ورغم أن العزاء لا يتجاوز ثلاثة أيام شعرت أن سيف الانتظار تحت اضعلي يقطّع أجنحة الوقت فتهيض" ص96، إضافة إلى أن الاعتماد على الفكرة الدينية في صوغ بعض المقاطع السردية كان يعوّق السرد، نضيف إلى ذلك أن التعبير عن الأفكار التي تعتمل في نفوس الشخصيات كان يتم بطريقة ذهنية، فوق أدبية، تشبه لغة الدراسات الاجتماعية، على نحو ما نرى في بعض سطور الصفحات 8 و9 و52.

*****

لقد حملت النهايات السردية لهذه إلماحاً إلى خطرٍ منتظر، عبر الإشارة إلى عودة بعض الغائبين الملتحين اللذين يرتدون دشداشات قصيرة، ويرتادون المسجد في غير أوقات الصلاة، ويشغلون أنفسهم بإصلاح المجتمع من الضلال، ص154.

لذلك كان من الطبيعي أن تنوس نهاية الرواية بين الخوف والرجاء، وأن يرنو السارد إلى الرولة في السياق النهائي متسائلاً:"هل تحتضرين كما إخالك؟ أم انك تمهدين لفصول جديدة من الحكاية لم تكتب بعد" ص157.

وها نحن ننتظر أن يشهد مجتمع الرواية، والمجتمع العماني فصولاً أكثر اخضراراً.

تعليق عبر الفيس بوك