عبيدلي العبيدلي
على أرضية تلك الخلفية التاريخية التي تؤسس لتجذر مفهوم "الكتلة الوطنية" في الموروث الفكري السياسي العربي، وفي ضوء الرصد الذي تمَّ لأصنافها المُتعددة، يمكن تلخيص أهم مقومات نجاح مثل تلك الكتلة الوطنية في النقاط التالية:
1. الوعي السياسي المتطور نسبياً في صفوف المواطنين البحرينيين. والحديث هنا عن تطور نسبي ليس مطلقًا، لكنه يكفي للالتفاف حول كتلة وطنية تتوفر فيها متطلبات الحدود الدنيا التي تحبذ بناء كتلة وطنية في وسعها قيادة الشارع البحريني حول برنامج عمل وطني يتجاوز السلبيات القائمة، ويكون قابلاً للتطبيق، ويحظى بقبول مختلف مكونات وألوان طيف العمل السياسي البحريني. وتحقيق الاستفادة القصوى من هذا الوعي، وتحويله إلى واحد من مقومات نجاح هذه الكتلة رهن بعاملين أساسيين مُتكاملين: أولهما الشخصيات التي ستدعو لبناء هذه الكتلة، وفيما بعد تلك التي ستقود مسيرتها، والثاني، برنامج العمل الذي ستنضوي تحت لوائه القوى السياسية البحرينية الطامحة للإصلاح والتغيير نحو الأفضل، بعد انتشال الواقع البحريني من حالة الشلل التي يمر بها، ويُعاني منها.
2. التجربة التنظيمية/السياسية الغنية لدى مجموعة من قيادات العمل السياسي، وهنا ينبغي التمييز، وبشكل دقيق بين من دخل العمل السياسي في فترة متأخرة، وبين أولئك الذين عركتهم حياة ذلك العمل، وخاضوا تجارب تؤهلهم للوصول إلى الصيغة السياسية الملائمة، المنطلقة من خلفية فكرية تناسبها، وتقوم على بينة تنظيمية تتوفر فيها مقومات النجاح الضرورية. والحديث هنا لا ينطلق من مسلمات تجريدية تحلق في فضاء التمنيات، بقدر ما تشخص حالة ملموسة، تعود بنا إلى حقبة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، عندما كان لقيادات العمل السياسي البحريني/ الذي كان حينها يُمارس أنشطته من خلال خلايا العمل السري، حضورا ملموسا ومعترفا به في صفوف الحركات السياسية القومية والأممية على حدٍ سواء. بما فيها تلك المنضوية تحت رايات الإسلام السياسي.
3. الدروس المستقاة من الحراك السياسي الذي عرفته البحرين خلال الأعوام 2011 – 2016، وهو تجربة فريدة في تاريخ البحرين الحديث، والمعاصر. والحديث هنا يتحاشى الخروج بأية استنتاجات مسبقة، ربما تكون ذاتية. ومن ثمَّ فالدعوة هنا للوقوف بجرأة وحزم أمام تجربة السنوات تلك، بعيدًا عن أية نرجسية سياسية، أو حتى تنظيمية. والربط هنا بين ما يوصف بأنه من مقومات النجاح. فقراءة ما عرفته تلك من أحداث، بعين ناقدة موضوعية، من شأنها أن تزود من سيتقدم الصفوف كي يمارس دورا رياديا في تشييد "الكتلة الوطنية" بذخيرة حية وفتية من أجل تعزيز الإيجابيات وتقليص السلبيات التي واكبت ذلك الحراك. ولكي تتحول تلك الدروس إلى عامل مهم من عوامل النجاح، لا بد وأن تكون القراءة في غاية الموضوعية، وبعيدة عن التشنجات الفئوية، أو التحزب الضيق الأفق، وتتمتع بمستوى الشفافية المطلوب لإنجاز المهمة.
4. نضج الظروف الموضوعية الإقليمية، وعلى وجه التحديد الخليجية منها. يكفي الالتفات بشكل إيجابي لما يحدث من تطورات إيجابية في المجتمع السعودي، على الصعيدين التحولات المجتمعية، والتحديثات الهيكلية في بنية الدولة، وغطائها الإيدلوجي، كي نكتشف أننا أمام مرحلة مهيأة لتحولات نوعية سوف يكون المستفيد الأكبر منها ذلك الذي يرصدها بعين متعقلة، بعيدة عن الاندفاع الجزافي، وفي الوقت ذاته، وبالقدر ذاته، لا تكون ضحية سهلة للخوف من التغيير، أو التقليل من تأثيراته الحالية المباشرة، والمستقبلية غير المباشرة. وليس هناك من في وسعه إنكار تأثيرات تلك التحولات، ليس بشكل آلي، ولا بشكل صورة مستنسخة (Photo Copy) مما أشرنا له بشأن الوضع الداخلي السعودي. ينبغي التحذير هنا من مقولات يروج لها البعض، بأن ما يجري في السعودية، إنما هو ظاهرة عرضية مؤقتة، لن تلبث أن تتلاشى وتعود الأمور على النحو السابق الذي كانت عليه.
5. استعداد السلطة البحرينية، للنظر في إمكانيات التعامل الإيجابي البناء مع "الكتلة الوطنية" في حال تبلورها. وبخلاف ما يمكن أن يقال عن سلوك السلطة تجاه مثل تلك الكتلة، لكن حالة الاحتقان التي واكبت أحداث 2011 – 2015، لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، ولا بد لها من محطة تنتقل فيها نحو آفاق أكثر استمرارا. وبوسع الكتلة الوطنية متى ما أحسنت وضع عوامل معادلة العلاقات التي ينبغي أن تحكم، ومن ثم تسير العلاقة بين الطرفين: الكتلة الوطنية والسلطة الحاكمة في مواقعها الصحيحة، أن تضع أسس علاقة من نمط جديد تكون محصلتها فوز الطرفين. وبخلاف ما يحاول أن يروج له البعض، الذي يرسم صورة قاتمة محبطة للمرحلة القادمة، هناك بصيص أمل في نهاية النفق، يمكن زيادة شدته وتوسيع دائرة تأثيراتها، كي تلج الكتلة الوطنية مسارات المرحلة المقبلة، وهي راسخة الأقدام، واثقة الخطى، من أجل تحقيق برنامج وطني شامل، وواقعي قابل للتحقيق.
مقومات النضج هذه ليست أرقاما حسابية مستقلة عن بعضها البعض، بقدر ما هي منظومة رياضية مترابطة تشكل في مجموعها العناصر التي تحتاجها الكتلة الوطنية الراغبة في التغيير السليم القابل للحياة والتأثير والاستمرار. ومن ثم فمن غير المنطقي، ولا السليم أن يكون المدخل للاستفادة منها انتقائيا يختار ما يلائمه ويهمل الباقي. إن أهم ضمانات الفعل الإيجابي لهذه المقومات هو صهرها في بوتقة واحدة تكون أطر "الكتلة الوطنية" بمثابة الحاضنة لها، والإطار العام الذي يُحافظ على أدائها.
وهنا ينبغي التحذير من مغبة المنهج الانتقائي الذي، من المحتمل أن يحمل في ثناياه تجيير برامج الكتلة لصالح فئة دون أخرى، وفي ذلك هدم كامل لمفهوم الكتلة الوطنية، وتهشيم لهياكل معابدها التي يفترض أن تتمتع بالشمولية التي تحول الكتلة إلى صرح وطني بعيداً عن الثكنات الطائفية، أو الدهاليز الفئوية.
حينها تصبح الكتلة مشروعًا وطنياً لا يخرج عنه إلا من قرر أن يكون بعيدا عن الدائرة الوطنية بمعناها السياسي الشمولي.