"القرود المفتونة ببلاد الظّلام"

غالب خلايلي يمتح من بئر "كليلة ودمنة"

...
...
...
...

د. يوسف حطّيني


كثيراً ما يتمّ الخلط بين مصطلح "مجموعة قصصية" ومصطلحات أخرى مقاربة مثل "أقاصيص" و"قصص"؛ إذ يختلط الأمر على القاص والناشر عند التصنيف الأوليّ الّذي يحتلّ عادة صفحة الغلاف: فالقصص والأقاصيص مصطلح عام، والمجموعة القصصية أخصّ منه؛ إذ يشير الأخير إلى قصص، أو أقاصيص، يجمع بينها جامع موضوعي أو فنّي، وبهذا تخرج كثير من "المجموعات القصصيّة" المنشورة عن هذا المصطلح إلى كونها "أقاصيص/ قصص" لا يجمع بينها سوى وجودها بين دفتي كتاب.
وبالمقابل، وهنا "مربط الفرس" كما يقولون، ثمة مجموعات قصصية قليلة ترتبط بخيط فني أو موضوعي، أو بكلا الخيطين، وتحمل على غلافها تصنيف "قصص/ أقاصيص" كما نرى في المجموعة القصصية السابعة للطبيب الفلسطيني غالب خلايلي التي صدرت في دمشق في الشهر الثامن من عام 2017، وحملت عنوان "القرود المفتونة ببلاد الظلام"؛ فهي مجموعة تضمّ ثلاث عشرة قصة، وتجمع بينها كثير من الخيوط الفنية والموضوعية؛ بدءاً من تناولها القضايا السياسية الساخنة التي يمرّ بها المجتمع العربي، وليس انتهاء بانتماء كلّ شخصيات قصصها إلى عالم الحيوان.
ولا يمكن للقارئ أن يقرأ قصص المجموعة دون أن تقفز به ذاكرة الثّقافة نحو كتاب "كليلة ودمنة" للفيلسوف الهندي "بيدبا" الذي ترجمه ابن المقفّع إلى اللّغة العربيّة في العصر العباسي، وذلك لاشتراك الكتابين في استخدام الرمز الموازي للحياة الواقعية، وفي الاعتماد على الشخصيات الحيوانية. غير أنّ ثمة فروقاً واضحة بينهما؛ إذ وضع خلايلي المبضع فوق الجرح تماماً، بينما اكتفى "كليلة ودمنة" بالوعظ والإرشاد والنّصح، معتمداً على تناسل الحكايات وفقاً للصيغة الفنية الشهرزادية التي تتوالد فيها الحكايات المتداخلة.
* * *
وأول ما يلاحظه المرء انطلاقاً من عنوان المجموعة، ومن عناوين القصص، أنّها تعتمد صيغة الجملة الاسمية بشكل رئيسي، فالعنوان "القرود المفتونة ببلاد الظلام" جملة اسمية، والمجموعة تتضمن ثلاث عشرة قصة تحمل اثنتا عشرة منها عناوين تعتمد على جمل اسمية، ومنها: "ورطة القرد والجعاري، القوارض لا تفقد ذاكرتها، البلبل المهاجر، الضفدع اللزج المغرور، الديك الذي صار خنزيراً"، أما العنوان الثالث عشر فهو جملة فعلية تبدأ بشبه جملة "حينما عبث الجدي بالورد". وبعيداً عن الغوص في النحو العربي والتمييز بين الجملة الكبرى والجملة الصغرى، فإننا نقرر ببساطة أنّ الكلمة الأولى لم تكن "فعلاً" في أي من عناوين القصص جميعاً. ولهذا الأمر دلالته الحاسمة في الإشارة إلى عدم توقّع التغيير في الحالات التي عبّرت عنها القصص، لأن للاسم دلالة الثبات، وللفعل دلالة التغيير، وهذا يعني ببساطة (وفق منطق البرمجة اللغوية التي ينطلق منها المؤلف) أن الأفعال التي تسعى إلى إحداث التغيير والتي تغصّ بها بنية السرد محكومة بعنوان اسمي يرسّخ حالة التسليم، على الرغم من الاضطراب الذي يمور في صدور الشخصيات وإحالاتها الواقعية.
وتحتلّ الفوضى التي شهدها الوطن العربي إثر الاضطرابات الدموية التي سمّيت "الربيع العربي" مكاناً بارزاً في دلالات النصوص، عبر إشارات جزئية أحياناً، وكليّة أحياناً أخرى؛ فثمة إشارة إلى توهّم القوة، كما في قصة "ورطة القرد والجعاري"، وإشارة إلى تبديل الجلد؛ حيث يخلع الضفدع المغرور بزة ويرتدي أخرى، وإشارة إلى "قارض كبير" في "القوارض لا تفقد ذاكرتها"، يفتي بالسّلب والنهب، ما يدفع الآخرين إلى اقتراف الموبقات استناداً إلى فتواه وعطائه الجزيل، كما أن هناك إشارة إلى الإرهابي المضلّل، حين تركت الأرانب "ماء الينابيع الزلال وشربت بدلاً منه ماء عكراً أسود؛ لتتحول إلى أرانب سود قوية ترهب قلوب من تخالهم أعداءها"، ص18، إضافة إلى ذلك فإننا نقرأ عن الجدي الذي يستعين بأصدقاء من خارج البستان ليحرق الورد كلّه في الليل، ص52.... وغير ذلك من الإحالات على واقع عربي مضطرب.
* * *
يبني غالب خلايلي حكايات قصصه بنية تعاقبيّة، ولا يخرج عن هذه البنية إلا لماماً، لصالح عودة السارد إلى الماضي في موقف سرديّ جزئيّ. وهو يدرك أن هذا النوع من القصص لا يحتمل حكايات ذات بنية دائريّة، أو حكايات تبدأ من الوسط، كما أنّ خواتيم حكاياته تميل إلى النّهايات الحدثيّة التي يلجأ إلى تقريرها وتأكيدها في بعض الأحيان، وهذا ما يحيل على شكل أدب الأطفال، وإن كان الخلايلي هنا يكتب للكبار الذين فقدوا طفولتهم.
تنطلق معظم قصص المجموعة من حالة استقرار نسبيّ، يشبه كثيراً انطلاق قصص "كليلة ودمنة"، ويمكن أن نشير إلى السّياقين الافتتاحيين التاليين:
ـ "عاشت طائفة كبيرة من الفئران والجرذان عيشة راضية هنيّة في واحة غنيّة بالأشجار المثمرة والغلال، وكانت على خير ما يرام بين جيرانها"، ص10.
ـ "في بستان أخصر كبير ولد جديٌ ناعم جميل، لأبوين يملكهما صاحب البستان..."، ص49.
غير أن الأمور لا تسير على هذا النحو سوى أسطر قليلة، حتى يحدث طارئ يخلخل بنية الاستقرار، عبر أنساق لغوية مألوفة، فيبدأ بناء الأزمة التي تقود الحدث إلى ذروة الصراع، على نحو ما نجد في قصة "القوارض لا تفقد ذاكرتها"؛ إذ نقرأ النسق التالي:
"مرّ وقت طويل على هذه العيشة التي تبدو آمنة حتى حدث ما لم يكن بالحسبان"، ص11.
أما خواتيم الحكايات فحدثيةٌ غالباً، كما في "ورطة القرد والجعاري"؛ إذ يطلب النمر من جمهور الحاضرين أن يقتربوا من الكلب والقرد الذي يناصره؛ ليشهدوا بأم أعينهم أن بقايا الحشيش الأخضر عالقة بين أسنانهما، بخلاف ما يدعون من أنّ الحشيش الأخضر تأكله النمور. غير أن هناك تقريراً للنهاية، على عادة الكثير من القصص التي تنتمي لهذا النوع، وفي هذا السياق يؤكد القاص ما بات مؤكداً في النهاية الحدثية:
"أخذ النمر يضحك مزمجراً مبتهجاً، وهو يبتعد عن حفلة الجعير التي انقلبت نواحاً، وبقي الكلب والقرد يتبادلان التهم ويلطمان خدّيهما"، ص9.
ويتكرر الأمر ذاته في قصة "القوارض لا تفقد ذاكرتها"، إذ تنتهي حكاية القصة حين يفاجَأ القارض الكبير بدويّ مروّع إثر هبوط قدم الدبّ فوق سردابه، ولكن القاص يقرر النهاية ويؤكدها بهطل "المطر غزيراً في تلك الليلة الحاسمة (...)؛ ليغسل كلّ الحقول من أدرانها"، ص15. بل إنه يضيف إلى النهاية ما يشبه (وعاشوا في ثبات ونبات)، من خلال ترسيخ فكرة العودة إلى الاستقرار.
ولعلّ الخاتمة في قصة "الضفدع اللزج المغرور" تقترب من القصص الفني بشكل أكبر؛ إذ يرسّخ القاص نهاية الحكاية في النسق التالي: "ومع إطلالة الصبح النديّة، وإشراقة الشمس البهية من بين الغيوم البيض الناصعة عادت العصافير الصغيرة ...."، ص15.
غير أن الحكاية لا تقف عند هذا الحد، على الرغم من أن الضفدع المخدوع يختفي إلى الأبد، فالكاتب يفتح السياق اللغوي النهائي على حكاية أخرى تتجدّد باستمرار: "لكنّ ضفدعا مغروراً لزجاً صغيراً آخر مغرماً باللهو والمجون والتلوّن، كان يشقّ طريقه بحيويّة ونشاط إلى عالم الضوء"، ص38.
أما الشخصيات فتبدو نموذجية تماماً، إذ يلجأ القاص إلى نمذجة الشخصيات لا إلى تفريدها، وهذا مطلوب تماماً في هذا النوع من القصص، فهناك النمر والفهد والثعلب والحمار والكلب والجدي والقرد والفأر والأرنب والضفدع والديك والبلبل والفراشة وغيرها. وهو يفيد من مخزون الذاكرة الجمعية فالفهود تمتاز بالشجاعة، والثعالب ماكرة والأرانب ضعيفة، والذئب وحش كاسر، وهكذا... بل إنّ القاص يجعل صفة الشخصية تمهّد لأقوالها وأفعالها، على نحو ما نجد في "سمفونية المحبة والوفاء للذئب":
ـ "قالت غنمة غبية بلهاء: كم كنا أغبياء! كنا نظن أنّ الذئب وحش كاسر". ص40.
ـ "قفز السنجاب الذكيّ، بخفة إلى شجرة عالية، وقال لمجتمع الغابة: احذروا أيها المساكين"، ص41.
أمّا فيما يتعلّق باللغة فقد استخدم القاص لغة معيارية، لا تقترف الخطأ إلا نادراً، وتركن إلى الصفات النموذجية والمسكوكات اللغوية ، على نحو ما نجد في ""تمادى القرد والكلب في غيّهما"، ص8. و"وكانت على خير ما يرام"، ص10. و"وما لبث الجوع أن أنشب مخالبه"، ص11.
ويمكن أن نشير أخيراً إلى تظهير الإيقاع السردي للموضوع القصصي عبر تركيز القاص على عدد من الثيمات التي اشنغلت بها دلالات حكاياته من نحو التركيز على فكرة الخديعة، وفكرة القناع، وفكرة الخروج التي دفع القرد والنملة ثمنها في قصة "النملة تعلق خارج سياج دارها"، "القرود المفتونة ببلاد الظلام"، في دعوة مفتوحة إلى التمسك بالأرض.

تعليق عبر الفيس بوك