[ هكذا، مثلما نشبت الحرب. ]

يوسف شرقاوي - دمشق


" إذن، وضعت الحرب أوزارها، نترككم الآن مع المذيع أ ليقدّم الإحصائيّة الأخيرة."
تفرّست الطفلة وجهي، كانت عيناها تندى، وشاحها الأخضر يسبقها قرابة نصفَ متر ويبعد عنها متراً، بيد أنّه لعجوز، يا للفقر ! سمّرت مكانها، شفتاها تحاولان النطق، لا جدوى، عبثاً كلّ الكلام، ملأ نحيبها المكان، ربّما فهمتُ الأمر، أطفأتُ المذياع، ابتسمَت البنت، هذا كلّ ما في الأمر، الإحصائية الأخيرة اللعينة، الضحايا، لقد وضعت الحرب أوزارها، هكذا قالوا، لكنّ المدينة ما تزال جريحة دنيئة قذرة مهدّمة.
" يا للوحشيّة ! يا للظلم ! " هكذا يصرخ مجنونٌ لم ينجُ سوى اسمه من الذكر على لسان المذيع أ.
رجعت الطفلة تبكي : خُلِعَت الشجرة ! ما عساهم صانعون بها ؟ إنّها ليست سوى شجرة.
إنّني لا أعرف هذه الصغيرة، بئس الذاكرة في خلايا دماغي ! رجعتُ عقداً كاملاً في الحياة، من حيث نشبَت الحرب، الحرب التي مثلما قيل على المذياع : وضعت أوزارها اليوم.
كنتُ مرميّاً في كوخٍ وسط الغابة، بين الأغوار الموحشة الباردة، لا، ما هكذا نشبت، كنتُ في البيت الكبير، في الريف، فقط، هذه هي القصّة ! بيتٌ كبير في الريف، أشعلتُ السماور، خبا الضوء، خيّم الظلام، وراح الريف، هذا كلّ ما في الأمر، إنني لا أجيد سرد القصص، من أين أتت هذه الصغيرة ؟ لأعيد ترتيب رأسي : عدتُ من الفلاحة مع ذلك الشيخ، ماذا حل به ؟ يا إلهي ! من أين دخلت هذه الصغيرة حياتي ؟ الشيخ قد مات ذلك اليوم، وزوجته وقعت بينما كانت تعبر النهر، قالت نساء القرية أنّ تمساحاً ابتلعها ! من أين يأتين بهذه القصص ؟ يومها نشبت الحرب، هكذا، فقط هكذا، كنا نحرث الأرض، هرع شاب همس في أذن الشيخ : زوجتك ماتت. توقّفَت أنفاسه، وقع، ارتطم رأسه بحجرٍ كبير وسط البستان، يا لسوء حظّه ! كنّا على وشك أن نقتلعه، ثمّ دوى صوت الأجراس وقالوا : نشبَت الحرب.
إذن ! كيف التقيتُ هذه الطفلة؟
خبا الضوء، وفجأة، قبل أن أصبّ قدح الشاي، وقع الباب، عُصِبَت عيناي، وبعد فينة، وجدتُ نفسي مربوطاً في كوخ وسط غابة هذه المدينة، سمعتُ دوي انفجارات ليست ببعيدة، صار خشب الكوخ يهتزّ، ووقع علي، هكذا، مثلما نشبَت الحرب، وبعد ساعات كنت في المشفى الحكوميّ، هنا التقيتُ الطفلة، قالت إنّها ابنة العجوز الذي كنتُ أفلح معه، واقتادوها معي، هي وحيدته، حرقوا البستان، إذن ! قد حُرِقت جثة الشيخ وزوجته، وابتُليت بهذه الصغيرة.
طردوني من المشفى، إذ لا أملك من المال شيئاً، وطردوا الصغيرة معي، غريبان في المدينة، تتوشّح بقطعة قماش خضراء، لأمّها التي ابتلعها تمساح، أمّا أنا فاستطعتُ سرقة اللباس الأزرق من المشفى، يا له من ثوب !
جلنا أطراف المدينة عبثاً، فعدنا إلى الغابة بعد ضياع طويل الأمد، لملمنا الخشب المتهالك دون جدوى، تلك الليلة صارت الصغيرة متسوّلة، وصرتُ سارقاً لا بأس به، هكذا، مثلما نشبَت الحرب.
استجدَت الطفلة بضع ليرات، وأنا سرقتُ مساميراً عديدة تثبّت إعلاناتٍ للأطبّاء أنفسهم، أولئك الذين طردوني، كنتُ سارقاً شريفاً، لوهلةٍ من الزمن، ولئن لم يتسنَّ لي أن أسرق مطرقة، استعرتُ حجراً كبيراً من الرصيف، وأعدنا بناء الكوخ، أمًّا الليرات القليلة اللاتي استجدتهنّ الصغيرة بشقائها، انتُشِلنَ من يدها، لم يكن سارقاً شريفاً، هكذا، مثلما نشبَت الحرب، ولئن لم تدع الحياة مكاناً للشرف والعفّة، صارت الصغيرة متسوّلة متمرّسة، وصرتُ سارقاً محترفاً، أيضاً هكذا، مثلما نشبت الحرب، مثلما حُرِق البستان، ومثل قدح الشاي الذي ربّما بقي ساخناً حتى هذه اللحظة.
بعد شهور، بل بعد سرقةٍ ناجحة وتسوّلات بريئة، استأجرنا منزلاً صغيراً هنا، وسط المدينة، وأسلفت للمالك أجرة عامين، أسلفتُ أنّها سرقة ناجحة، تدبّرنا احتياجات المنزل، وقررت أن أرجع إنساناً شريفاً، هكذا أيضاً، مثلما نشبت الحرب، فعملتُ في حانةٍ صباحاً، وحمّالاً مساءً، وصرت أجني قوت يومي، أمّا الصغيرة فكتبَت قصّتها الأولى، ولقت رواجاً كبيراً ونُشِرَت في الصحف، لكم يحبّ الناس القصص ! مثل ابتلاع تمساح لامرأة !
رددتُ المال الذي سرقته، اشتريتُ علبة مسامير رميتها عند باب مكتب مدير المشفى، مع الثوب الرديء، وظلّت الصغيرة قرابة الأسبوع تجوب الشوارع وتُعيد الليرات لكلّ من عصر إنسانيّته حتى راودته الشفقة، وهكذا عادت، وعدتُ شخصاً كريماً عفيفاً، مثلما نشبَت الحرب.
الآن، بعد عقدٍ كامل، تبكي الطفلة : خُلِعَت الشجرة.
تذكّرت كل شيء، الشجرة التي اتّكأ الكوخ عليها، انتزعوها من مكانها، أولئك الملاعين، ربما هم من اقتادونا إلى الغابة، هم نفسم من تسببوا بذعر الأجراس.
كان يمكن أن تكون القصة كلها : " هكذا، نشبت الحرب، هكذا، وضعت الحرب أوزارها. "
لكنها الذاكرة، بئس الذاكرة.
أمّا الآن والكلّ يتساءل ما عساي أفعل، أقول : عائد أنا والصغيرة إلى البيت الكبير، القدح ينتظر، هكذا، مثلما ستنشب حربٌ جديدة، ومثلما سيُخرسها صوت مذياع يحصي ضحاياها : إذن، وضعت الحرب أوزارها.

تعليق عبر الفيس بوك