المُفْسِدون في النَّقد

الناقد والروائي / عبد الجواد خفاجي

 

رغم أن الكَمية  مسؤولة ـ أحيانا ـ عن تدهور النقد الأدبي واستسهال التعامل مع ما هو علمي وما هو أدبي استسهالاً مفضٍ إلى تلويث الأجواء، مع ذلك أن الأزمة هنا ليست في الكميّة، ولكنها في النوعية المرتبطة بالمناخ العام، فالنقد ليس أكثر من عمل نوعي، ومن ثم فالرهان سيظل على النوعية، والمناخ الذي يؤطرها.

ثمة فعاليات غير حقيقية لأشخاص غير حقيقيين في المؤتمرات الأدبية الموسمية التي تقيمها هيئات أو مؤسسات رسمية، غير نشاطهم من خلال أندية الأدب والمنتديات الخاصة، حيث يتحول النقد فيها إلى عربون محبة، أو شيء لزوم الشيء، أو طلب شهرة، وفي هذا الطريق لا نعثر على نقد أدبي، وإنما قد نجد حناجر، أو لصوصًا بلا معرفة بالمصطلحات التي يستخدمونها، أو لصوصا يعرفون قيمة ما ينهبون، ويجيدون فهم المصطلحات والنظرية التي تستخدم هذه المصلحات، ولكنهم غير موهوبين، يمتهنون اللصوصية في طريق موتهم. غير أن كثيرين ممن يؤدون هذا النشاط ـ من غير المنتمين للأكاديميات ـ من طالبي الشهرة، يحرصون على الحضور الكذوب تماشيا مع واقع كذوب.
الأزمة التي أقصدها هي أزمة مناخ، بدا مع الشبكة العنكبويتة عملا شبه مشبوه، يضاعف من حجم الأزمة. بما أتاحه من إمكانيات السطو, وأمامي الآن كتب لمؤتمرات أدبية رسمية مصرية تحوي نصوصا لنقاد سوريين ومغاربة تم السطو عليها بواسطة "الماوس" لتصير هنا بدلا من هناك.!! .. لم يحرص ناقلها حتى على تغيير العنوان والعناوين الفرعية، ولكن كان واعيا باستبدال اسمه بأسماء أصحاب النصوص النقدية، الحقيقيين الذين سهروا وقرأوا وفهموا وكتبوا.

والأزمة عندي لا تتوقف عند ما طرحته آنفا من جرائم غير أخلاقية يعاقب عليها القانون ويعتبرها من الجرائم المخلة بالشرف.. مهمة النقد أن يشير إلى السرقات الأدبية التي تمثل جريمة، لكنه ليس سلطة فاعلة باتجاه الانحراف الأخلاقي. غير أن نقاش السرقة لا يركز على الأخلاق. وإنما يساهم بشكل عملي في توضيح أركان الجريمة، ومدى قيامها نصوصيا وكشفها، لينتهي دوره.. ولذلك بدت الجريمة ميسورة. ما دامت محصورة في نطاق النقاش.

 ولعل أزمة النقد تبدأ من الوسط الأكاديمي، عندما يفرِّخ نقادا غير حقيقيين، وغير مؤهلين علميا.. ولعل هذا سيعود بنا إلى أزمة التعليم وأزمة أستاذ الجامعة المهموم بالترقيات وهو المنكفئ على نفسه، مع مراجعه ودراسته، بحثا عن الترقية، ثم الصمت الجميل حتى يحصل على موافقة الأمن لرفعه إلى مرتبة أعلى وظيفيا.

أزمة النقد تبدأ من أزمة الواقع، وليست منفصلة عنه على المستوى الاقتصادي والثقافي، والسياسي الذي يجر الثقافي خلفه.
المؤشرات ـ أيضا ـ  تؤكد غياب القدوة في واقع مملوك لحناجر بعينها، وآذان بعينها. مجتمع القدوة انتهى ـ الآن ـ بفرض قدوة جبرية سياسية.
 الناقد الصغير، والدارس للأدب ـ كلاهما ـ يحتاجان إلى قدوة يتربيان على يديها وتوجههما نحو الفهم والتمييز ، متجهة بهما نحو التاريخ؛ ليعودا منه موليين وجهيهما لعصر لن يسألهما عن الفاعلية، ولماذا يسألهما وهو الباحث عن تجهيلهما  واستغلالهما؟!.
الباحث الأدبي يحتاج في مرحلة مبكرة من نشاطه النقدي إلى الاقتداء، حتى يشتد عوده ليتحول عن الاقتداء إلى الإبداع ، ولا أظنه سيجد القدوة.. لأن لا أحد يريد متاعب مضنية في واقع شحيح، ولن تتوفر قدوة في مجتمع يخشي أن يلتقي الناس فيه يغير تصريح، مع ازدراء الناس للعلم الذي لم يعد يطفئ غائلة الجوع في مجتمع نفض يده من العلماء، وحصر الفن في ملاح غرائزية راقصة مسفة تسير ضد الفن ومهمته.  
والمفترض أننا جميعا نعمل لوجه العلم والفن والتنمية والنبوغ والإنسانية، والواقع غير ذلك، وهو يحارب النبوغ، والإنسانية، ويغلب عليه الطابع البرجماتي المتوحش. ويستثني الثقافة، والعلم كما يستثني كل شيء حقيقي.

ولعل النقد ظاهرة حضارية ترتبط بالواقع وبالإنسان وبالحياة، هو مؤشر حضاري، في واقع حضاري يرتبط به. ومن ثم يبدو مأزوما مع أزمة الحضارة العربية المنسحبة من التاريخ.. وربما أن ترصد البعد الثقافي وتحجيمه وتنميطه، مع تمييع الوعي، جعل من مصادقة الكتاب ترفا، ومن الأدب ترفا ومن النقد ترف الترف.

تعليق عبر الفيس بوك