أمتنا بين القطيعة والتجديد (3-3)

عبدالله العليان

لكن هذه الكتابات لم تجد لها صدى في الأوساط الفكرية أو الشعبية؛ لأن الأطروحات التي قدَّمها هؤلاء الكتاب، لا تختلف عن نسقها الفكري، عن هوية الأمة ورصيدها لفكري، بل إن البعض طرح فكرة القطيعة مع التراث الإسلامي، وهذه القطيعة يُراد منها أن نخلع فكرنا كما فعل الغرب عندما ثار على الكنيسة في القرن السابع عشر...إلخ.

ويرى الأستاذ الميلاد أنه "عند النظر في هذا النسق من الكتابات، يمكن القول إنه لم يكن فاعلاً ومؤثراً في تحريك مسارات التجديد في الفكر الإسلامي، وينتمي لمنظومات مغايرة، هي على خلاف ونزاع فكري واجتماعي مع الفكر الإسلامي، ولأنه ينطلق من مقاصد وغايات تُفسَّر في داخل الفكر الإسلامي بطريقة تحجب عنها إمكانية التأثير، ويجري التعامل معها بطريقة سلبية ورافضة، وتصور بالعدائية، وأنها تأتي في سياق مواجهة الإسلام وإزاحته عن واقع وساحة الحياة". وفي فصل "تجديد الفكر الإسلامي بعد صدمة الحادي عشر" من سبتمبر 2001، ناقش الأستاذ الميلاد اهتمام الدوائر الفكرية الغربية والعربية، بقضية التجديد في الفكر الإسلامي، ومناقشة أسباب ما جرى للولايات المتحدة: هل هذا هو رؤية الإسلام تجاه الآخر المختلف؟ أم أن هذه المنظمة تحمل فكرًا مغالياً لا يتفق معه غالبية المسلمين؟ وبدأت الكثير من الاهتمامات لهذا الجانب".

لذلك -كما يقول الأستاذ زكي الميلاد- "أصبح الإسلام والفكر الإسلامي في دائرة واهتمام العالم برمته، بكل ثقافاته وأديانه ولغاته، وبات الجميع يتحدث ويقرأ ويكتب ويناقش عنه، كما بات الشاغل الأكبر، والهم الأساسي في مختلف وسائل الإعلام، والنشر، والاتصالات المرئية والسمعية والمقروءة؛ وذلك بعد أن نسبت تلك الأحداث إلى جماعة تنسب نفسها للإسلام".

ثم بدأ الأمر ينطلق بصورة مختلفة؛ من حيث اهتمام المؤسسات والأفراد، من المهتمين بالظاهرة الإسلامية، والنظرة بدأت تتوسع لقضية التجديد "لهذا فقد تغيرت رؤية الفكر الإسلامي لمفهوم التجديد، وطريقة التعاطي معه، وأصبحت القناعة بهذا المفهوم جادة وفعلية، وأخذ بشكل حاجة وضرورة لمواجهة نزعات التشدد والتطرف والتعصب، الوضع الذي كان يفترض أن يقود الفكر الإسلامي المعاصر إلى أعظم مراجعة تاريخية ونقدية ينهض بها للنظر في واقع ومصير ومستقبل العالم الإسلامي، وعلى أساس المدة الطويلة للتاريخ حسب نظرية المؤرخ الفرنسي فرنارد بروديل، وذلك بحثاً في الجذور، وتوغلاً في الكشف عن الأسباب البعيدة والتاريخية".

وفي فصل "رؤيتي في تجديد الفكر الإسلامي"، يتحدث الأستاذ الميلاد عن كيفية تحقيق هذا الأمر كما يراها، بطريقة فاعلة، وليس كلاما إنشائيا عابرا، فيرى أنه "لا يتحقق التجديد في الفكر الإسلامي بطريقة المعادلات الرياضية الباردة، أو بطريقة القوانين العلمية الصارمة، ولا بطريقة آلية ميكانيكية جامدة، كما لا يتحقق التجديد من فراغ، أو بدون مقدمات وشروط، ولا بطريقة فورية، أو بمجرد التعبير عن الرغبة فيه، ولا بكثرة الحديث عنه، فالحديث عن التجديد ليس تجديداً بالضرورة".

وناقش الميلاد من خلال رؤيته في تجديد الفكر الإسلامي من النظرة لذلك لا يتحقق، إلا من خلال النظرة الواعية لقراءة التراث العربي؛ فالتراث الذي يعيش فينا لابد من إعادة النظر إليه "في إطار جدلية التراث والمعاصرة، بمعنى أن التجديد في الفكر الإسلامي لا يمكن أن يتحقق بدون إعادة قراءة التراث من جديد، وبمنهج العقل النقدي، وعلى أساس فلسفة التواصل وليس الانقطاع، وبخلفية الهضم والاستيعاب، وسعياً نحو التجاوز والإبداع. كما لا معنى للتجديد، إذا لم يبدع الفكر الإسلامي معاصرته وحداثته في إطار شروطه التاريخية والثقافية، ويبرهن على قدرته في مواكبه العصر، والانخراط في تجربة الحداثة العالمية، والمشاركة في إنتاج المعرفة الإنسانية". ولا شك أن الأستاذ زكي الميلاد، استوفى في طرح هذا الجانب المهم، بصورة تعدت الكثير من الأطروحات التي ناقشت قضية التجديد في الفكر الإسلامي، وبصورة شاملة وكلية، من حيث تحليل الواقع العربي الإسلامي الراهن، منذ أن بزغ الحديث عن أهمية وضرورة التجديد، خصوصاً وأن الأستاذ الميلاد ركز على قضية المنهجية والعلمية في طرح قضية التجديد، إلى جانب بسط الرؤى التي تسهم في أفكار نيّرة ومتوازنة، ومنها التفاعل مع العصر ومستجداته، دون التفريط بالتراث -وبحسب الأستاذ الميلاد- "لا يمكن أن نواجه علوم العصر بعلوم التراث، كما لا يمكن أن نواجه علوم العصر بالتخلي عن علوم التراث، وهذا ما يريد أن يدفعنا إليه البعض على خلفية أن من دون التخلي عن علوم التراث لن نقترب من علوم العصر، وهذا هو الوهم بعينه، فليست هناك أمة حية تقطع صلتها بذاكرتها، وتفصل نفسها عن تراثها، وتمحي علاقتها بتاريخها".

وهذا القول الأخير هو زبدة رؤية الأستاذ المفكر زكي الميلاد في هذا الكتاب، من حيث الموازنة الحصيفة بين الانفتاح على العصر وعلومه الجديدة، وتحولاته الفكرية، وبين الأخذ والاستفادة من تراثنا الضخم، مع ضرورة التجديد باعتباره سنة كونية وطبيعية في حياة الأمم، وهذا ما فعلته الكثير من الحضارات والثقافات، عندما تعرفت على حضارات الشعوب الأخرى، من خلال الفرز والانتقاء، بما يحقق نهضتنا وتقدمنا، وليس القطيعة والارتماء في فكر الآخر وثقافته.