حمد العلوي
لقد دأبتُ على مراجعة الدوائر الحكومية منذ عشر سنوات أو يزيد، عزماً مني بعد التقاعد، بأن أتحرر من مغزى هذا الوضع، الذي يأمر الموظف "سابقاً" بأن يموت قاعداً، لقد اختار العرب وهم أصحاب الفصاحة في التعبير الواضح، أن يوسموا الخارج من الوظيفة، أو حتى المُخرج منها بمقولة رصينة المعنى والدلالة، بكلمة واحدة وهي "متقاعد"، وإذا أنت فككت لغزها ستجدها أمرا بالموت قاعدا، وليس على أي وضع آخر، إذن تختم حياة الموظف بالحكم عليه بالموت قاعدا، فبهذه الطريقة يختم تاريخك ومسارك في العمل، ومهما كان حالك من قبل، وقد أمرتني نفسي أن لا أنصاع إلى هذا القرار، وأن أسبح عكس تياره البغيض، فيوم ذاك أعلنتُ قراري في مقالي الأول، وذلك بعد التقاعد، فكان عنوانها: "لا.. لا.. لن أموت قاعدا"، فمنذ ذلك التاريخ وأنا أنهج نهجاً آخر غير الذي جُبلت عليه لأكثر من ثلاثين عاماً، وهي زهرة الشباب وعنفوان العطاء.
فنزلتُ إلى ساحة الوغى، أدخل إلى وزارة وأخرج من أخرى، وكنت ألاحظ أن الناس ليسوا هم الذين كنت أقابلهم يوم الوظيفة، فقد وجدت نفوراً وجلفاً تجاه الآخر، وكأنك تقابل خصماً كان بينكما ثأرٌ قديمٌ استعصى حله لهول كنهه، فكلما أقدمت على مراجعة موظف ما في دائرة خدمية، شعرت كإنسان وكأنك تراجع شخصاً قد مُلِأَت نفسه بالنكد والأحزان، أو كأنك تُقدم على مقابلة حارس لباب سجن فيه عتاة المجرمين، فلا ترحيب ولا كلمة طيبة تشعرك بإنسانيتك أمامه، فذات مرة دخلت مكتبا في إحدى الوزارات والناس في تزاحم داخل المكتب، وبعضهم أتى من ولايات بعيدة، فسلمت وجلست مع الجمع الغفير، وبعد مرور وقت ليس بالقليل سألت الموجودين: هل وجدتم أحداً عند قدومكم إلى هنا؟ فقالوا: نعم، ولكنه خرج ولم يعد، فذهبت أبحث عنه في المكاتب المجاورة، وبتلطُّف سلمت على شخص وجدته في المكتب المقابل، فقلت له: هل تعرف أين صاحب المكتب الفلاني؟ فرد عليَّ ولم يكن قد رد على سلامي الذي بادرته به، فقال: اذهب سيأتي، فعدت أدراجي إلى ذلك المكتب، وجلست بانتظار هذا الذي سيأتي؟!
فعلاً أتى.. ولكن ليس شخصاً آخر كما فهمت من إجابته، وإنما هو الشخص عينه، وأخذ مكانه على الكرسي خلف طاولة الموظف، فلما استوى جالساً على الكرسي، نظر إلى المراجعين وسأل الحضور من الذي أتي أولاً، وكأنه يهتم بالعدالة والإنصاف للناس، ومن سؤاله ذلك للناس عرفت أنه هو صاحب المكتب، وليس غيره كما أوحت إجابته لي، فوقفت وأتيت بالقرب منه، فقال لي أجلس حتى يأتي دورك، فقلت له قد أتى دوري، ألست أنا بشراً مثلك، فرد: ماذا تريد؟ فقلت له لا أظن أن مثلك سيهمه ما أريد، ولكن تكبُّرك في الرد عليَّ يُخبرني بأنك هاوي سلطة وحسب، ولكن لو تكلم الكرسي الذي تجلس عليه، سيقول لك كم من شخص جلسوا عليه، ثم رحلوا وأنا أحد الراحلين عن هذه الكراسي، ولكن أؤكد لك لم يبق لهم إلا الذكر الطيب، إن هم فعلوه حقاً واعترف به الناس له، وليس كما يظن الإنسان نفسه، وأما منك وأنت هكذا، فأنا لا أرجو خيراً من خدمتك لي، وصادف ذلك الكلام مرور شخص مسؤول، فأمسك بيدي وأخذني إلى مكتبه، وفهم مني سبب الزعل من ذلك الموظف، وحل هو الموضوع الذي أتيت من أجله، وليس الشخص المكلَّف به بحكم وظيفته.
إذن، فقد ظللنا نُقدم على الموظف الخدمي، وذلك خلال السنوات الماضية، ولكن في البال شعور بالنكد من سوء المعاملة، وإن الموظف لا يجهد نفسه في البحث عن الحلول، فالأسهل له أن يقول لك هذا ممنوع، أو هذا لا يجوز، أو راجع الأسبوع القادم وشوف المسؤول، والجواب الأخير تجد فيه بارقة آمل، طالما رحمك بنصيحة توصلك إلى المسؤول، الذي قد تفلح بمقابلته، وقد لا تراه إلا بوسيط ثالث، وهذه "الغلاسة" أوجدت مرتعاً خصباً للرائش والراشي والمرتشي للأسف الشديد.
إنَّ الذي جعلني أطرح هذا الموضوع اليوم، ذاك الشعور الذي يوحي بوجود تغيُّر في سلوك الموظف، وقد لاحظت هذا التغيُّر في أكثر من مكان، فأول ملاحظة بهذا التغير ظننته استثناءً من ذلك الموظف، الذي كان بشوش الوجه، سَمِح في تعامله مع الناس، حتى إني همست له بنصيحة مجانية، بأن لا يظهر هذه الطيبة دوماً حتى لا تتجنَّى عليه طيبته، فينقل إلى الأرشيف أو مكان إداري في الخلف؛ حيث لا يقابل أحداً هناك سوى ملفات الحفظ، فابتسم شاكراً على النصيحة ظنًّا منه أنني أمزح معه، ولكن تبدَّى لي أن هناك فعلاً تغيراً في سلوكيات الناس في الوظيفة، وأنهم وبحمدلله بدأوا العودة إلى عُمانيتهم الحقيقية، بعدما كانوا قد فصلوا بين السلوك العُماني المشمول بالمحبة والسلام والاحترام، وسلوك الموظف الحكومي المتزمِّت المتكبِّر تصنُّعاً، الذي سعى لإبراز جبروت السلطة قبل كل شيء.
لقد تأكد لي وسيتأكد لكم، أن الموظفين قد تغيروا وقد طغت الخلق العُمانية على خلق الوظيفة الدخيلة التي كانت منفرة للناس، وذلك بسبب السلوك الجاف، والصلف المتصنع لخلق المهابة بقوة السلطة، وليست بقوة الأخلاق والاحترام الجميل، فقد ترددت كثيراً هذه الأيام على الدوائر الخدمية الحكومية، واكتشفت أن للموظف أسنانا بيضاء لا يخجل من إظهارها، كما كانت الحال في السنوات الماضية، وأن له كلمات طيبة توحي بالاحترام والرقي الأخلاقي، ولديه مخزون وافر من طول البال في استقبال المراجعين، ولكن لا أعرف إذا هذا التغير بتوجيه من المسؤولين، أم المستوى الثقافي الذي بلغه المواطن العُماني في مسيرته الاجتماعية، هو الذي أقنع المواطن بأن يغير سلوكه في الوظيفة، وهذا هو الأرجح؛ لأن المسؤول السابق لا يزال على رأس عمله، وإن تغير بالفعل فهو مكسب يُشكر عليه.
لكن، هل سيتوقف هذا التغيير فقط عند حدود نوافذ المراجعين وحدها، أم ستشمل كل تدرجات الوظائف الحكومية؟ علماً بأن عدداً من أصحاب المعالي الوزراء، وبعضاً من أصحاب السعادة الوكلاء، قد مارسوا حسن الظن في الناس، واستقبلوهم برحابة صدر واستمعوا إليهم باحترام، غير أن هناك من لا يزال يظن أنه خَلقٌ آخر، يختلف عمن ليس في مستواه الوظيفي، وأنه يظن بأنه خُلق دون سواه لذلك المنصب الرفيع الذي لا يرقى إليه إلا أمثاله من الراسخين في المعرفة بالوطنية. ونتيجة ذلك، ستظل رؤوس الأموال تهرب إلى دول أخرى، أكانت محلية أم وافدة؛ ذلك بسبب قسوة البيروقراطية الإدارية التي أزكمت كل الأنوف، عدا أنوف بعض المسؤولين الذين يطيبون، لا بل يعيشون على العقد والتعقيدات، والنظرة القصيرة التي تستمر في خنق الاقتصادي الوطني، بعلم أو بغير علم، المهم أن يكون هناك منتظرون كُثر على الأبواب يطالبون بالمقابلة، والمطالبة بتبسيط تسهيل الإجراءات، قد تلغي كثرة طلب المقابلات الشخصية، لكنها لا تعني إغفال الضوابط التي تحفظ التوازن وسيادة الوطن وأمنه.
هذا والله من وراء القصد..