الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

الإسهام الفكري العُماني حتى نهاية عصر اليعاربة (1/11)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

عـُمان بلد عريق و تدل الآثار التي تم اكتشافها في العقود القليلة الماضية على معرفة سكانها القدامى بالرسوم والنقوش الحجرية منذ فجر التاريخ، كما كان لتواصل عمان مع حضارات بلاد ما بين النهرين ووادي النيـل والهنـد والصين ما يؤكد على التأثير المتبادل بين عمان و تلك الحضارات. وفي العصر الجاهلي كانت أسـواق عمان ـ ومن أهمها سـوق صحار وسوق دبا ـ ملتقى للتبادل الاقتصادي والفكري. و كان للعرب أسواق متعددة في السنة الواحدة من أهمها سوق عكاظ، وكانت تقام بصفة دورية معروفة، و لم يكن نشاطها يقتصر على البيع والشراء بل كانت بمثابة مهرجانات أدبية، ينشد فيها الشعراء أشعارهم ، وينقدهم فيها النقاد، و يبرز الآخرون آدابهم و فنونهم كل في مجال اختصاصه. وكان شعراء عمان يرتادون هذه الأسواق. أما سوق صحار فكان يقام في شهر رجب من كل عام. وبحكم إطلالة صحار على البحر توافد عليها تجار من الحبشة والهند والصين وبلاد فارس بالإضافة إلى العرب. وظهر في عمان في أواخر العصر الجاهلي خطباء مخضرمون مشهورون منهم مصقلة بن الرقبة وولده كرب وهما من أشهر خطباء العرب آنذاك، ولهما الخطبتان الشهيرتان:" العجوز" في الجاهلية و" العذراء" في الإسلام  اللتان وصفتا بأنهما جمعتا من العلم والأدب ما خضعت له أعناق العرب  .وذكر الجاحظ أن بني عبد القيـس بعد محاربتهم إيـادا تفرقوا فرقتين استقرت إحداهما في عمان وهم خطباء العرب، وذهبت الأخرى إلى البحرين وهم من أشعر العرب، و ذكر الكثير من خطباء عمان منهم صعصعة بن صوحان وأخويه زيدا وسحبان، وصحار بن العباس العبدي  الصحابي المعروف الذي توفي سنة 40 هـ / 660م.

حرص العمانيون على دراسة الكتاب والسنة لفهم الدين والتفقه فيه، وتوجه بعض طلبة العلم منهم إلى البصرة لينهلوا من مدرسة التابعي الشهير جابر بن زيد (18-93 هـ/ 639-712م) ، وجاء بعده أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة حتى أواسط القرن الثاني الهجري الذي نقل المهمة في حياته إلى الربيع بين حبيب الفراهيدي ( 75- 176هـ/ 694- 792م) المعروف بغزارة علمه ومصنفاته العديدة كالجامع الصحيح في الحديث . وعلى أيدي أبي عبيدة و الربيع خرج عدد من العلماء، من أبرزهم الخمسة الذين عرفوا بحملة العلم إلى شمال إفريقيا و عمان و اليمن والحجاز ومنهم المنير بن النير الريامي ومحمد بن المعلا الفجحي.

أبدع العمانيون في علوم اللغة العربية، ففي مجال التأليف المعجمي ظهر الكتاب الرائد وهو كتاب (العين) للعلامة الخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، الذي ابتكر أيضا علم العروض في موازين الشعر و بحوره، وجاء بعده ابن دريد في القرن الثالث الهجري فألف كتاب (الجمهرة) وهو أحد أهم المصادر في تطور المعجم العربي. ومنذ القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي بدأت المؤلفات الموسوعية الفقهية في الظهور ومنها كتب الجوامع مثل : جامع أبي الحواري، وجامع ابن جعفر، و جامع البسيوي، وجامع ابن بركة. وفي القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر ظهر كتاب (بيان الشرع) في اثنين وسبعين مجلدا لمؤلفه محمد بن ابراهيم الكندي. تلاه في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي كتاب (المصنف) في اثنين وأربعين مجلدا لأحمد بن عبد الله الكندي، و (الكفاية) في خمسين مجلدا لموسى بن عبد الله الكندي، كما ظهرت المدرسة الفقهية للشيخ محمد بن علوي الحسيني في مرباط بجنوب عمان. وفي القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي برزت مؤلفات الشيخ أحمد بن النظر ومن أهمها كتاب (الدعائم). بالإضافة إلى هذه الموسوعات الفقهية ظهرت مؤلفات سلمة بن مسلم العوتبي في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي في جوانب معرفية متعددة كالفقه و اللغة والتاريخ والأنساب ومن أشهر كتبه الفقهية (الضياء) وفي اللغة (الإبانة) وفي الأنساب والتاريخ (الأنساب).

ظهرت في أواخر القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي مؤلفات الربان ذائع الصيت أحمد بن ماجد السعدي في علوم الملاحة والفلك وأهمها (الفوائد في أصول علم البحار والقواعد). ولكن الحياة الفكرية في عمان تعرضت لفترات من التراجع نظرا لاضطراب الأحوال السياسية، وهو الوصف الذي ينطبق على الفترة الثانية من حكم أسرة النباهنة ـ من مطلع القرن الخامس عشر حتى منتصف العقد الثالث من القرن السادس عشر ـ حين ظهرت دولة اليعاربة.  

إنتعشت جميع أوجه الحياة في عمان خلال عهد اليعاربة باستثناء الفترة الأخيرة من عهدهم. وقد وجـّه القادة اليعاربة اهتماما خاصا للحياة الفكرية، إلى الحد الذي جعـل الشيخ الرئيـس أبا نبهـان يعتبر أول أئمتهم ناصـر بن مرشـد ( 1624- 1649) أفضل أئمة عمان في مختلف العصور، بسبب علمه وعدله وانتشار العلم بين رعيته، حتى أن من يبيع اللحم والبصل يصلح أن يكون قاضيا أو واليا أو خازنا أو وكيلا لعلمهم وكثرة أمانتهم. وانتشرت المدارس الفكرية لا سيما الفقهية منها آنذاك، وتخرج من مدرسة الإمام بلعرب بن سلطان (1680- 1692) في مقر حكمه في جبرين خمسين عالما وصفوا بأنهم أهل اجتهاد وإفتاء بالرأي. و من أبرز المؤلفات الفقهية في تلك الفترة: (منهج الطالبين و بلاغ الراغبين) للشيخ خميس بن سعيد الشقصي ويقع في اثنين وأربعين مجلدا، و كتاب (الدلائل في اللوازم والوسائل) للشيخ درويش بن جمعة المحروقي. و في عهد اليعاربة ظهرت أهم المؤلفات العمانية التاريخية ويأتي في صدارتها (سيرة الإمام ناصر بن مرشد) لعبد الله بن خلفان بن قيصر الذي كان معاصرا للإمام و مطلعا على شؤون الدولة، و كتب مؤلفه في حياة الإمام. و ظهرت أيضا ثلاثة مؤلفات تاريخية أقدمها كتاب (كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة) لسرحان بن سعيد الأزكوي ، و كتاب (قصص و أخبار جرت في عمان) لمحمد بن عامر المعولي، و كتاب (تاريخ أهل عمان) لمؤلف مجهول الهوية.  و يعتقد بعض الباحثين أن كتاب  كشف الغمة هو المصدر الأكثر أهمية إذ أن الكتابين الآخرين استقيا منه معظم معلوماتهما.

تعليق عبر الفيس بوك