علي بن كفيتان
التعبير عن الرأي هو إحدى الوسائل التي كفلتها كل السنن الإنسانية حيث لا يستطيع الإنسان أن يعيش بهيمياً لا يتأثر بما يجرى حوله من أحداث، ومهما استجاب الآدمي للغة العقل المجردة أو سطوة الخوف المشهرة فإنّه يراكم شعور بالأسى العميق ويكبت موجات الغضب؛ حتى تصبح تسونامي يصعب التعامل معه مستقبلاً.
الشعور بالانتماء للأمة ليس عارا أو عيبا بل هو مصدر فخر واعتزاز مهما كان حالها؛ ففي أوقات النصر نحتفل، وفي أوقات النكسات ندفن رؤوسنا في التراب هذه المعادلة تنافي الطبيعية الإنسانية للبشر الذين قدر لهم أن يضحكوا ويبكوا ويناموا ويصحوا وهكذا فلا يمكن أن نكون محايدين إلى الأبد وإلا فإننا لسنا من هذا الكوكب.
الجميع مقتنع بالبعد عن الملفّات التي تجلب الفرقة والشقاق في الصف الواحد سواء الداخلي أو الخارجي وفي مقدمتها الاصطفاف المذهبي والمناطقي، والإساءة للرموز الدينية والسياسة والحضارية، وتخريب المقدرات والمنجزات والعبث بالأمن العام وترويع الآمنين، بالإضافة لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والكيانات الأخرى، وما دون ذلك كفل النظام حرية الرأي الناضجة والحضارية للإنسان.
هناك قضايا يستجيب لها حتى الحجر الساكن في قاع الوادي، ومهما كانت حياديتك لا تستطيع أن تخلع نفسك وعاطفتك عنها وعلى رأسها قضية بيت المقدس، فهي ساكنة في نفوس حتى من لم يولد بعد في هذا الوطن. فهذه البقعة الطاهرة من هذا الكون كانت وجهة نبينا محمد صلى الله وعليه وسلم الأولى في رحلة الإسراء والمعراج، وفيها أمّ جميع الأنبياء والمرسلين، ومنها غادر عليه الصلاة والسلام في رحلته الكونية إلى ربه، كيف نكون محايدين في التعاطي مع قضية فلسطين ونصم آذاننا عن كل ما يحدث وكأننا من كوكب آخر؟
بالأمس القريب أعلن سيد واشنطن أنّ اللعبة انتهت وأنّ القدس هي عاصمة إسرائيل، ولم تشفع المليارات ولا المبادرات ولا الاتصالات لثني الرجل عن الأمر؛ بل على العكس ظهر مُتجبراً أثناء توقيعه مرسومه وكاد أن يكسر قلمه ويخرق ورقته من شدة حماسه ومن ثمّ لوح بما صنع كالعادة ليؤكد للعالم بأنّه أقدم على ما عجز عنه الآخرون. والمتتبع لذلك الحدث بعيدا عن الشعور العاطفي يقول بأنّ السيد ترامب هو الرئيس الأكثر صراحة مع نفسه ومع شعبه ومع العرب في أنٍ واحد، فلم يخف الرجل فرحته العارمة بهذا التوقيع وهو يمارس تلك الصلاحية الممنوحة للرئيس، والأمريكيون لطالما دعموا الكيان الغاصب من خزينة دولتهم بالمال والسلاح، أمّا العرب فقد أفاقوا من سكرة الكذب على شعوبهم بأنّهم يتحكمون في توجهات الدولة العظمى.
وسواء كان هذا الحدث متفق عليه مع أطراف عربية في إطار ما يعرف بصفقة القرن التي يروج لها منذ بزوغ نجم سهيل في كبد السماء أو لا فإنّه لم يعد يهمنا أن نعلم فقط نطلب ممن يرعانا بحكمته الدائمة أن يمنح حيزاً كافياً للتعبير عن الرأي، فنحن شعب عربي مسلم ولنا مشاعر وأحاسيس لا يمكن دفنها إلى الأبد، فعندما يتم تسيير مسيرة سلميّة في إحدى الأماكن العامة دون المساس بحيادية بلدنا السياسية، ودون الإساءة لأي دولة، أو رفع شعارات تحرض على العنف في ظل نضوج المجتمع بأهميّة الحفاظ على الأمن والسلم الاجتماعي. وبذلك يتم التنفيس عن شيء من الغضب العارم في نفوس الناس تجاه ما يجري.
وهنا يتبادر إلى الذهن غياب العمل المؤسسي الذي ينظم التعبير عن الرأي بشكل حضاري مثل إنشاء جمعية للتعبير عن الرأي، أو تأسيس مركز للدراسات الاستراتيجية يرفد الجهات المختصة بمؤشرات حيوية لتوجهات الرأي العام في السلطنة تجاه القضايا الداخلية والخارجية.
ستظل القدس أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى سيدنا محمد صلى الله وعليه وسلم، وكما قالت العرب في غابر الدهر (ربّ ضارة نافعة).