إقامة تكتل خليجي هندي.. ضرورة من وحي التاريخ العماني

 

د. عبدالله باحجاج

كنا في آخر مقالاتنا، قد تساءلنا لماذا تلجأ السلطنة- ممثلة في هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية- إلى إعادة احياء الذاكرة المشتركة لدول المحيط الهندي الخليج عبر إقامة مؤتمر حول علاقات عمان بدول المحيط الهندي الخليج في القرون (17- 18- 19) بدولة الكويت الشقيقة؟ وتساءلنا كذلك، إلى مدى يمكن لهذه الذاكرة المشتركة أن تحصن العلاقات المعاصرة لهذه الدول؟ وكذلك الرهان عليها في بناء منظومة علاقات ومصالح في عالم اليوم المتغير؟ ووعدنا بالإجابة على التساؤلات بعد اختتام هذا المؤتمر.

بداية.. لابد من توجيه الشكر والتقدير لجهود هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية في السلطنة على جهودها الضخمة في توثيق الذاكرة العمانية من محطاتها التاريخية المختلفة، ومن مختلف مصادر الأمكنة الجغرافية التي وصلت إليها الإمبراطورية العمانية، وعلاقاتها مع الدول الكبرى آنذاك، متعقبة بذلك، كل الموانئ والدول الآسيوية والإفريقية والأوربية التي كانت لها روابط تاريخية مع الدول العمانية التاريخية، وقد كان مؤتمرها السادس الخاص بعلاقات عمان بدول المحيط الهندي والخليج، الذي اختتم يوم الأربعاء الماضي، محاولة علمية ناجحة بامتياز في إحياء الذاكرة المشتركة لدول الفضاءين الهندي والخليجي، ومن على أرض دولة الكويت، ولماذا الكويت؟ وجدنا الإجابة عن هذا التساؤل في ورقة باحثة كويتية، معنونة باسم "العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين عمان والكويت 1841م-1939م" بيّنت فيها عُمق العلاقات التاريخية الثنائية، وانعكاسات الروابط التجارية الكبيرة بين البلدين على الأبعاد الاجتماعية، محددة أسماء نواخذة عمانيين من أصول كويتية، مثل النوخذة محمد ماجد المرزوق المولود في صور، والعكس كذلك، ودور النواخذة العمانيين في نقل خبراتهم إلى نظرائهم الكويتيين، وانطلاق التجار الكويتيين عبر الموانئ العمانية إلى شرق إفريقيا، وقد أحسنت هيئة الوثائق والمحفوظات العُمانية عندما اختارت الكويت مكانا لمؤتمرها السادس من هذا المنظور التاريخي.

ومن هذا المنظور نفسه، فتح لنا الآفاق المعاصرة في كيفية توظيف التاريخ المشترك بين الدول في صناعة علاقات معاصرة أكثر عمقًا وترابطًا، تكون امتدادا طبيعيًا وتلقائيًا لمسيرة هذا التاريخ المُشترك ليس بين السلطنة والكويت فقط، بل بين دول المحيط الهندي والخليج، فلو أخذنا الكويت نموذجًا، وهذا كان استشرافًا لوّحنا به في مداخلاتنا على تلك الورقة، فإنّ البلدان ينبغي أن ترتبطان الآن بصلات أقوى مما هي قائمة، وبمستويات عالية وعميقة من الاعتماد المتبادل أكثر مما هي الآن، رغم أهميتها، فهل سيعمل رجال السياسية الآن على إحداث هذا التحوّل المعاصر استلهامًا من هذا المنظور التاريخي؟ هذا يتوقف على التوظيف السياسي للروابط التجارية وانعكاساتها الاجتماعية لكلا البلدين، ونرى أنّ هذا التوظيف، قد أصبح ملحًا لحاجة كلا البلدين للآخر في ضوء التحديات الجيوسياسية، والجيواستراتيجية، والاقتصادية الراهنة.

لكن هل وصلت هذه الرسالة إلى صناع القرار في كلا البلدين؟ كان من الأهمية أن يصاحب هذا المؤتمر، حوارات إعلامية مسائية تنقل عبر قناة عمان مباشر، حول أهم الأوراق، مثل ورقة تلكم الورقة، وكذلك ورقة دور السلطنة الاستراتيجي في إشاعة السلم والنهضة الحضارية في المحيط الهندي والخليج القرنين (17- 19م) وورقة الوجود العماني في الموانئ الفارسية كبندر عباس وشهبار، دراسة وثائقية.... إلخ، فالدور الإعلامي في هذا المؤتمر كان من أجل التغطية الإخبارية فقط، ولم يكن من أجل تقديم الدعم الحواري، واستنطاق بعض الأوراق البحثية المهمة، وتحليل مدى الاستفادة منها الآن، بما يخدم كل الدول، وتدعيما لنهج السياسية العمانية الراهنة، وهذا لم يحدث إعلاميا رغم نجاح المؤتمر في تحقيق ثلاث غايات أساسية، هي توثيق روابطنا التاريخية المختلفة مع دول المحيط الهندي والخليج من جهة، وإحياء الذاكرة بها من جهة ثانية، وفتح لنا الآفاق السياسية حول مدى الاستفادة المعاصرة من التاريخ المُشترك في صناعة السلام والاستقرار للمحيط الهندي والخليج، وديمومته من جهة ثالثة.

وقد انكشف لنا بعد ثلاثة أيام متواصلة من جلسات العصف الذهني في علاقات عمان بدول المحيط الهندي والخليج، إمكانية أنّ يصبح هذان الفضاءان الآن كتلة إقليمية قوية ومتماسكة، تكون بين دولها مصالح اقتصادية متبادلة، وفضاءات آمنة ومطمئنة، الكل باستطاعته تحقيق مصالحه وفي الوقت نفسه الحفاظ على علاقاته الدولية، لو استوعبت دول المحيط والخليج تاريخها المتأرجح بين الحروب والصراعات والتعاون وتبادل المنافع، لكان ذلك حصانة لأمنها واستقرارها، ولو استوعبت تاريخها، لما ظهر فيها قادة جدد يحاولون- باللاوعي بالتاريخ المشترك- تكرار بعض أحداث القرون (17- 18 -19) وبالذات في مجال الأطماع الجغرافية الإقليمية، إنهم بذلك يعبثون بالجغرافيا، ويهددون استقرارها وأمنها، ولن ينجحوا في صناعة تاريخ سياسي جديد، يقلب المعادلات والتوازنات الإقليمية، فالجغرافيا الإقليمية محكومة بالتاريخ، لذلك فهم يبددون أموالهم، بدلا من استثمارها لرفاهية شعوبهم ولصناعة تعاون إقليمي قوي، يصهر الشعوب في بوتقة التعايش المشترك، والدول في شبكة المصالح الاقتصادية، وهم بذلك، ينسخون مفاصل سلبية في تاريخهم المشترك، وفي النهاية لن يجدوا أمامهم سوى حاكمية التاريخ.

فهل قرأوا هذا التاريخ؟ ولو قرأوه، هل استوعبوه؟ ولو استوعبوه، فلماذا لم يعملوا على جعل المحيط والخليج منطقة استقرار وسلام من وحي تاريخهم المشترك، ومن استلهامات الدولة التاريخية العمانية، ودورها في محاربة وطرد المستعمر الأجنبي من المحيط الهندي، وتأسيس علاقات نفع متبادلة مع دول المحيط والخليج، وترسيخ العيش المشترك بين ديموغرافيات المحيط والخليج، وكانت مسقط نموذجا لهذا العيش المشترك، وهو لا يزال قائمًا وبنفس قوة التاريخ.

هذا ما وجدناه في عدة أوراق مثل ورقة "من بومباى إلى مسقط.. عمان والهند والخليج في رحلة الأمريكي لوكر عام 1868" وورقة "مسقط وهجرة تجار كتش (الهنود) إليها في القرن 19م في ضوء وثائق بريطانية غير منشورة" وورقة "مشهد في قراءة من العلاقات بين الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي وشبه القارة الهندية في القرن 18م" للدكتور جمعة البوسعيدي، وكذلك ورقة "النشاط التجاري البحري للعمانيين وأهل الخليج العربي في القرنين 17 و18م"للباحث العماني حمود حمد الغيلاني، وورقة "بندر عباس في العلاقات العمانية الفارسية (1798- 1868م)، وورقة "الوجود العماني في الموانئ الفارسية في القرنين 18 و19م" للدكتورة بدرية النبهانية.

شكرًا جزيلا، لهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية على هذا الجهد الكبير، وعلى كل جهودها السابقة واللاحقة والمقبلة، فهى الحارسة الأمينة على ذاكرة الأمة، وقد وقفنا من الكويت على اجتهادات رأسها سعادة الدكتور الضوياني وفريق العمل المخلص معه، وهي جهود مباركة بمشيئة الله، وموفقة بمشيئة الله، لأنّ هدفها توثيق الذاكرة العمانية، وإحيائها من منظورها الوطني في إطار كل فضاءاتها الإقليمية والعالمية، وودنا لو صاحبتها حوارات إعلامية حول أهم الأوراق، لكي نبعث برسائل سياسيّة معاصرة من وحي التاريخ المشترك لدول المنطقة، لعلها تصوب الفكر السياسي للبعض، وتعدّل بعض المسارات الخاطئة الناجمة عنه، وتفعيل وتطوير رابطة الدول المطلة على المحيط الهندي.. وللموضوع تكملة إن شاء الله.