أزمة النقد العربي المعاصر (1-2)

الناقد والروائي / عبد الجواد خفاجي - مصر


ثمة سؤال راهن عن الخروج من التيه، في المقارنة بين حال النقد الأدبي بين اليوم والأمس ؟ ولعل الإجابة تبدأ من النظر إلى النقد ـ بصفة عامة ـ  بوصفه ظاهرة حضارية ، من شأنها أن تضبط مسار العلاقة بين الإنسان وذاته والإنسان وغيره والإنسان والكون من حوله ، وهو عملية فكرية تعتمد على الوعي والعلم والخبرة الإنسانية والفلسفة ، وهى تعمد إلى التحليل العميق للفعل الإنساني ، وللسلوك البشري ، ولكافة العلاقات القائمة في المجتمع الإنساني، ومن شأنه أن يقدم رؤية باتجاه الحاضر الإنساني ومتطلباته، وبخصوص اللحظة ومتطلباتها، وهو يضع المصير الإنساني نصب عينيه، كما أنه يوظف الوعي بالتراث الإنساني، لا باعتباره نبراس الحاضر، بل باعتباره جزءًا مكينًا من ثقافة الشخصية الإنسانية الواعية  .. النقد إذن رسالة إنسانية سامية، ومن شأنه أن يقدم منجزاته باتجاه الحاضر طرحًا للرؤى، وتصويبًا للمسار وتقويمًا للعلاقات، والنشاطات، وإضاءة للعقل، وإنارة للطريق أمامه. قد يختلف الخطاب النقدي باختلاف الفلسفة السائدة، أو باختلاف الأيديولوجيات، أو باختلاف الأسس الإبستمولوجية ( المعرفية ) التي يعتمد عليها، إلا أنه في النهاية يعبر عن توجه حضاري، ولابد له من الارتباط بسياق حضاري له  قيمه الجمالية والروحية والثقافية والمعرفية، هذا السياق وحده هو ضابط العملية النقدية ذاتها ، أو بالمعنى: إنه يأتي في السياق وليس منفصلاً عنه ، ومن ثم عندما نتحدث عن أزمة النقد فإننا بالضرورة ـ وعلى نحو غير مباشر ـ نتحدث عن أزمة الحضارة نفسها .
ومن هنا نأتي للسؤال عن النقد الأدبي ـ وهو بالضرورة جزء من الخطاب النقدي العام ـ لأسأل: هل نحن بالفعل نعيش لحظة حضارية مأزومة ؟ . إذا كانت الإجابة بنعم فلا شك أننا بدأنا نعترف بعلات النقد، بل نلمس أسبابها.
إنني أرى النقد الأدبي صورة من واقع أمته ـ على فرض قيام هذه الأممية.. لقد ظلت ساحتنا العربية ومازالت ساحة لصراع الأيديولوجيات الوافدة، ولتبعية سياسية مطلقة لحلفاء استراتيجيين، بينما الأمر في الماضي كان غير ذلك .. كنا في الماضي أمة استطاعت أن تؤسس بالفعل والرؤية مجتمعًا إسلاميًا أفاد مما بين يديه من معطيات حضارية، ومن منهج إسلامي شامل أتاها من السماء ـ وما أكثر ما خصتنا به السماء ـ في هذا الشأن وغيره. كما أفادت من تراثات وحضارات أمم أخرى مقهورة أمامها؛ لذلك بدأت النهضة الحضارية على أسس علمية، وعلى أساس من منهج موحد، وأيديولوجيا ثابتة واضحة .
أما والحاضر مؤسف، حيث ظلت تبعيتنا السياسية والفكرية  والعلمية والأيديولوجية للغرب هي ديدن الباحثين عن التواجد في العصر، وثمة فارق بين التبعية، وما حدث في الماضي من توظيف التراثات والحضارات الأخرى والإفادة منها .. إنها العلاقة التي يجب أن تفهم في إطار الحضارة القاهرة والحضارة المقهورة، و من الطبيعي أن تستمرئ الحضارة المقهورة التبعية للحضارة القاهرة.
في إطار التبعية التي يحلو للبعض وسمها بغير المطلقة، أقول التبعية هي التبعية، لا توجد تبعية مقيدة وتبعية مطلقة.. و كثيرًا ما يضطر البعض إلى تجميل السلبية ماداموا مجبرين عليها.. الإشكالية أن كثيرين يرون أن هذا التجميل غير حقيقي، بل الحقيقي ـ عندهم ـ  أننا لا يمكننا أن نكون فاعلين بذاتنا إلا في إطار مرجعي حضاري غربي ، وفى هذا مكمن المشكل وخطورته، عندما نتجاهل التاريخ، ونتجاهل ذواتنا، ونتجاهل حقيقة الحضارة الغربية ذاتها.
في ظل سيادة مفاهيم التبعية هذه وما تستتبعه من انجراف نحو الاستيراد اللاواعي لكل منتج غربي فكري أو غير فكري، ومن دون تروٍ لما يستوجبه أمر الاستيراد من دراسة الاحتياجات الحقيقية للمجتمعات الشرقية، سواء الروحية أو الفكرية أو الجمالية أو غيرها ينجرف النقد في التنظير بعيدًا عن المنتج (بفتح التاء) الإبداعي، معتمدًا على أسس ابستمولوجية وفلسفية وحضارية لم تكن تخص الواقع العربي المأزوم في شيء، ولم تكن تشكل بالنسبة له قيمة، بل كان ـ  بفعل تخلفه ، أو بفعل ظروفه السياسية والتاريخية ـ  منفصلاً عنها، ظل هذا الخطاب يؤذن في مالطة طويلاً ، وهو الصادر من حفنة ممن يسمون في عالمنا العربي بالنخبة .. النخبة التي لم ينتخبها أحد، وكان من الطبيعي أن تكون هذه النخبة المثقفة تحت مظلة الرسمية تابعة لأنظمة شمولية تدين بالولاء للغربي وتعتمد عليه ـ هي الأخرى ـ  في بقائها، فيما ظلت ثقافة الشعوب العربية مستجهلة وما زالت، وفيما سارت النُّخب العربية تُنَظِّر لحكوماتها بضرورة الاستمرار في وأد وتجاهل ثقافة الشعوب، وكان طبيعيًا أن تنشأ المركزيات الثقافية شأن المركزيات السياسية، وكان طبيعيًا أن تنفصل تلك المركزيات برطاناتها، وتغربها عن مطالب واحتياجات الشعوب العربية وثقافاتها الحقيقية، هل لنا أن ننظر لكل أزمات الواقع الآن لنتأكد أنها إفراز طبيعي لتبعيتنا لآخر كان يوظف النُّخَب فينا، لتحقيق أغراضه فينا ؟ .. وهل لنا أن نتساءل إلام يقودنا هذا الطريق؟.
سبق أن قلت إن الخطاب النقدي خطاب حضاري، والحضارة تصنعها الشعوب، وما دامت الشعوب العربية مغيَّبة ومستجهلة، وما دامت السجون مفتوحة لكل صاحب خطاب ثقافي خارج عن إطار النخبة التي تتمتع بحماية الأنظمة العربية الشمولية، وما دامت الشعوب لا تمتلك إرادة الفعل، وما دام وعيها مميعًا، أو موءودًا عن عمد، وما دام الباب مفتوحًا على مصراعيه نحو الترامي في أحضان الآخر الذى ظهر بغير مواراة كآخر ثقافي يجر خلفه السياسي والعسكري من أجل تحقيق مطالبه التي تعبِّر عن ذاته هو، والتي تخص احتياجاته هو.. وما دمنا حتى الآن ننقسم حول حجم ونوع وكيفية التبعية، ومن دون أن نتساءل عن ضرورتها.. ومن دون أن نتساءل عن ذواتنا المضيعة أو المغبونة، فكيف إذن يقوم السؤال حول أزمة النقد ، بل كيف نُسْأل عن رأينا فيه .. السؤال يجب أن يتجه نحو ذواتنا المضَّيعة أولا، وعن أزمتنا الحضارية وكيف نجتازها.. ساعتها لن نجد مبررًا للسؤال.
كان طبيعيًا أن تنهض بعض الهمم لتدافع عن نفسها ضد المحو والإزالة.. كان طبيعيًا أن تعلو بعض الأصوات لتنادي بضرورة العودة إلى التراث، وإلى خصوصيتنا، وإلى ما خلفه الأجداد، وإلى ثوابت الأمة، ومقدساتها وثقافاتها، لكنها ومن أسف كانت كمن يؤذن في مالطة هي الأخرى، فقد اتسمت نظرتها إلى الحياة بالجمود والثبات عند قيم السلف، وكانت تؤكد من خلال الممارسات الفعلية أنها لم تطور آليات فهمها للحياة بالشكل الذي يؤهلها حتى لفهم التراث نفسه، بل كانت تؤكد أيضًا أنها لا تزال تنظر إلى التراث بصفته بيت الأجداد الخرب الذى يجب أن نعود إليه، ومن دون أن تكلف نفسها عناء الترميم.. لم تكن مستوعبة للتراث وإن كانت مخلصة له.. كانت تمارس الفرفصة أو محاولة الانفلات بذاتها وتدَّعى إمكانية السيطرة على الواقع بأفكار السلف وحدهم، ومن دون أن تلتفت إلى إمكانية توظيف التراث وفق رؤية جديدة، ومن دون أن تلتفت إلى أن الواقع واقع تحت سيطرة نخب ومركزيات سياسية، ونخب ثقافية علمانية تُنظِّر له، ولهذا كان طبيعيًا أن تصطدم بالسلطة، وبالخطاب الثقافي السلطوي النخبوي العلماني حارس الخطاب السياسي والمُـنَظِّر له، ومن ثم كان طبيعيًا أن تُفتح السجون لأصحاب هذا الاتجاه، وأن يلتفُّ الحبل / الحل حول أعناقهم.. هكذا هو الرأي يُسْجن، وهكذا نحن أمة تسجن الرأي لمجرد أنه لا يتفق مع السلطة، وربما أن حرية الفكر والرأي هي حالة أصيلة وجوهرية لنمو الفكر النقدي، وربما أننا بحاجة ماسة إليها.
قد نلتفت إلى أكثر الأصوات اعتدالاً من بين أصحاب الاتجاه السلفي من المعاصرين، في ثلاث مجلدات ضخمة صادرة عن "عالم المعرفة" تحمل ثلاثتها اسم مؤلف واحد، هو الدكتور عبد العزيز حمودة، وهو عاكف على الاحتطاب الكثيف في براري النقد التنظيري الغربي عبر غابة ثلاث مؤلفات ضخمة ليصل إلى نتيجة مفادها أن كل نظريات الأدب ومناهجها الغربية أضحت في مزبلة التاريخ عند أصحابها في الوقت الذى يشتغل عليها ـ هاهنا ـ نقادنا ومفكرونا العرب، ثم ليخرج بنا من هذا التيه إلى براح الثراث العربي ويتوقف بنا عند عبد القاهر الجرجاني باعتباره إمام البلاغيين العرب القدماء والمحدثين على السواء، ويرى أن في عودتنا إلى البلاغة التقليدية القديمة ما يمكن أن يغنينا عن دخول التية الغربي، وهو إذ يدعونا إلى ذلك يدعونا إلى عدم تعمد القطيعة مع الآخر الغربي.
ولعل مثل هذه الدعوة أثارت ما أثارت من ردود ناقدة ومفندة لفحواها التي انطوت على كثير من التناقض.. ففي الوقت الذى يدعونا إلى عدم تعمد القطيعة مع الآخر الغربي يرسخ لمفهوم ضمني يحركه وهو أن الغرب دائمًا إنما هم كالجيران السيئين، وأن ما لديهم أضحى نفاية بشرية، في ذات الوقت يدعونا إلى العودة إلى البلاغة التقليدية باعتبارها طلالاً قائمًا في مهب الرياح ينتظر من يعود إليه، يمكن أن يكون ـ وهو على حالته الطللية تلك ـ مأوىً مناسبًا لنا، وهى فكرة تؤسس لإمكانية أن يكون الماضي وحده سلطة على الحاضر لو أحسنا التبعية له. في مقابل من يرى أن الأمر بحاجة إلى تطوير آليات فهمنا لهذا الطلل بهدف الخروج منه إلى فسحة جديدة مناسبة  تترامى حوله .. ولعل إشكاليات الفكر السلفي أو الاتباعي ستظل بحاجة إلى مراجعة، وإلى البعد عن العاطفة  التي تشدنا إلى تقديس الماضي لمجرد أنه ماضٍ.

تعليق عبر الفيس بوك