امرَأةٌ افترَاضِيّة

صلاح زنكنه – كاتب وإعلاميّ - العراق


ترددت كثيرا عن قبول صداقتها, لكن عدد الأصدقاء المشتركين بيننا جعلني أضمها إلى قائمة أصدقائي حالها حال العشرات الذين أقبلهم على مضض ونسيت أمرها كما أنسى في الغالب الطارئين والعابرين والهامشيين من الأصدقاء الافتراضيين والصديقات الافتراضيات في عالم الفيس بوك المتلاطم والذين أحذف صداقتهم بعد حين, بيد أن هذه المرأة الافتراضية لم تكن سوى قنبلة موقوتة فجرت كينونتي وتشظّت في عمق وجداني وراحت تتقاذفني يمينا وشمالا وتتلاعب بعواطفي وأحاسيسي مثلما يتلاعب مهرج سيرك بالحبال والكرات والألعاب الناريّة ويبهر المتفرجين بخفة حركاته البهلوانية.
أمل لم تكن بهلوانا ولا لاعبة سيرك ولا بائعة هوى ولا ولا ولا..
كانت محض صاعقة نزلت عليّ لحظة نثيث المطر.  
- هل تحب المطر؟
- ومن لا يحب المطر؟
- سأزخّ عليكَ.
- مبلل أنا سيدتي.
- لكن روحك يابسة.
- روحي حمامة تحتمي من البلل.
- وروحي غيمة تشتهي أن تهطل على روحكِ لتغتسل وتتعافى.
- هل أنتِ شاعرة ؟
- أنا عاشقة.
هكذا بدأت حوارها معي منذ الوهلة الأولى وقد أحببت داعبتها ورشاقة كلماتها وجزمت مع نفسي أن هذه الصديقة الافتراضية امرأة أعرفها وتعرفني وقد اختفت خلف قناع لتمارس لعبة الغش والاختفاء لتوقع بيّ وتجرجرني إلى لعبتها التي أتقنت سباكة مداخلها ومخارجها لذا كنتُ حذِرَا معها ومتوجسًا من كل كلمة تقولها ومتقترًا في ردودي عليها كي لا أنزلق في متاهتها التي تبينت دروبها المتعرجة وأيقنت أنها تترصدني بغنج أنثى ذكية تبغي المطاولة عبر المد والجزر لكنها اخترقت كل دفاعاتي وشنَّت هجوما تلو الهجوم على بيادقي التي وضعتها مصدا احتياطيا لأي طارئ قد يطرأ في لحظة غفلة.
- أنت لا تعرف المرأة.
- أنا خبير بعوالمها ودهاليزها.
- أنت خبير في التلاعب بها.
- لي عشيقات كثر.
- وها أنت تعترف عشيقات كثر وليست من عشيقة حقيقية.
- كلهن حقيقيات.
- نعم صحيح جدا كلهن حقيقيات لكنك كنت مزيفا معهن جميعا.
- لا أسمح لكِ بالتطاول.
- لكنها الحقيقة, لِمَ الغضب؟
- لأنكِ لا تعرفيني ولا أعرفكِ.
- قد لا تعرفني لكنني أعرفك.
- من أنتِ؟
- أنا.. جرعة أمل.. أمل حياتك.
- أنا رجلُ بلا أمل ولا آمال.
- تفاحة عذراء بين يديك أمل.
- لستُ آدم.
- لكنني حواء وسأشتلُ الأمل في قلبك وسيبرعم آجلا أو عاجلا.   
ورحتُ أضرب الأخماس في الأسداس وأنقب عن كل أمل أعرفها من الصديقات والزميلات والمعارف والجيرة ولم أعثر على بصيص أمل من هذه الأمل التي راحت تتغلغل شيئا فشيئا بين مسامات وجداني وتنتهك حرمات عواطفي وتمسك بزمام قلبي الجامح وتقوده إلى حيث براري (الحب والهيام والغرام) التي غادرتها مذ طلقت زوجتي قبيل سنوات خلت وما عادت المرأة تعني لي شيئا سوى شهوة عابرة وسرير ساخن.
وأدمنت عليها وعلى مشاكساتها وعذوبة حضورها الافتراضي عبر الليالي الطوال التي أضاءتها بصخبها وهياجها حتى سقطت صريع هواها دون إرادتي وبتُ أدخن ثلاث علب سكائر في اليوم بدلا من العلبة الواحدة وأحتسي أكثر من نصف قنينة ويسكي وأثمل وجدا وولعا بها وأسهر حتى مطلع الشمس بعد أن فقدت الكثير من وزني وأهملت النساء اللواتي أعرفهن كما أهملت وظيفتي وأصدقائي وصارت أمل شغلي الشاغل بل قبلة مشاغلي كلها.
وأخيرا بعد طول انتظار اتفقنا على لقاء في كافتريا الركن الهادىء وذهبت إلى الكافتريا قبل نصف ساعة من الموعد وجلست أحسب الدقائق والثواني أرقب وصولها, ودوى صوت انفجار قريب من المكان حتى أن الدخان ورائحة البارود قد تسرب إلى الكافتريا وبقيت أنتظرها أكثر من ساعتين بالرغم من الهرج والمرج الذي صاحب حادث الانفجار ولم تأتِ, غادرت الكافتريا وأنا أغلي حنقا وغضبا وحين وصلت البيت فتحت الحاسوب كي أحذف صداقة هذه المرأة اللعوب وأحظرها إلى الأبد بيد إنني وجدتُ منشورا غريبا على صفحتها المكللة بوشاح الحداد الأسود تحمل صورة طليقتي وتنعي استشهادها (استشهدت اليوم المُدرسّة الفاضلة بشرى حمد كريم إثر التفجير الإجرامي الــ).

تعليق عبر الفيس بوك