مقتل صالح وتهويد القدس

علي المعشني

حين يكون الصراع بين محاور ومشروعات، تتسع رقع الصراع، وتتعدد جبهاته، وتتنوع وسائله، ولكن يبقى الهدف الأخير واضحًا وجليًّا وحاضرًا في أذهان المتصارعين، وإن لم يفصحوا عنه، بل يبقى مذخورًا لما يُمكن أن يُسمَّى في المصطلحات العسكرية جهد المعركة، وهي المواجهة الحاسمة للحرب والخاتمة للصراع.

وفي الصراعات عادة توضع إستراتيجيات متعددة المراحل ومتدرجة، وتوضع كذلك الخطط البديلة لكل مرحلة إخفاق متوقعة، كما لابد من وضع سيناريوهات للخروج من الأزمات بطرق مشرفة، وحبذا لو بدت وكأنها انتصارات، أو بمثابة هزائم "مشرفة" تحفظ شيئا من ماء الوجه والكرامة للخصم والمهزوم، والقائد المحنك بطبيعة الحال يمنح عدوه شيئا من النصر، ولا يجهز عليه تمامًا؛ تلافيًا للثأرات والأحقاد والانتقام الوحشي، فيجعله يتقبل الهزيمة بشيء من الروح القتالية، والتي توازي الروح الرياضية في ميادين الرياضة ومحافلها.

قد تبدو لنا ملامح فصول بعض الإستراتيجيات متباعدة جغرافيًّا، وغير مفهومة، لكنها للمخططين ضرورية، ومترابطة، وتخدم المصلحة الأخيرة للمشروع النهائي على المديين القريب أو البعيد.

وفي التاريخ البعيد نوعًا ما، سئل قائد سلاح الجو الفرنسي في الخمسينيات عن جدوى ومبررات ودواعي مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م؟! فقال: أنا أقاتل في مصر كي أنتصر في الجزائر! حيث عقدت فرنسا العزم على محاربة مصر ومعاقبتها على دعمها وتمويلها السخي للثورة الجزائرية، وقد قلب هذا الدعم السخي موازين القوى لصالح الثوار وأوجع فرنسا وكبدها الكثير من الخسائر والآلام.

وحين بدأت المؤامرة على ليبيا عام 2011م، قال أحد الخبراء الإستراتيجيين الروس: إن سبب سعي الغرب لتدمير ليبيا، وإسقاط العقيد القذافي بهذه الضراوة، هو انفجار مفاعل فوكوشيما في اليابان، والذي سيتسبب في انكماش حاد للاقتصادات الأوروبية بفعل سحب اليابان لمبالغ كبيرة من أرصدتها في الغرب لمواجهة آثار المفاعل وتداعياته، إضافة لتوقعات غربية بانحسار الاستثمارات اليابانية في الغرب لسنوات عديدة. من هنا، وجد الغرب ضالته في احتلال ليبيا، والسطو على مدخراتها ومقدراتها النفطية وودائعها وأصولها.

حين نعود إلى عنوان المقال والسر في ربط مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، ودعوات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، فإن الأمر لم يكن بالون اختبار سياسي من ترامب لرصد وتقييم ردود أفعال العرب عمومًا، والفلسطينيين خصوصًا، والعالم، لهذا الإعلان المؤجَّل لعقود من قبل الصهاينة والأمريكان معًا، بل كان مشروعًا قائمًا ومُخططًا ينتظر فقط وجود وسائل دعم تبريرية إقليميًّا لتمكينه وفرضه على أرض الواقع. وبهذا، يحقق ترامب "نصرًا " شخصيًّا مدوِّيا له ولعهده الرئاسي من هذه الخطوة، والتي لم يجرؤ عليها رئيس أمريكي من قبله، ويحقق بذلك -وكما يرنو- رضا عارم من قبل الصهيونية العالمية، يمكنه من إعادة التموضع والرسوخ في الإدارة الأمريكية، ومواجهة الخصوم من اللوبيات الأخرى، والتي تعد له طبخة مأزق سياسي (تهمة التآمر مع الروس للفوز بالرئاسة) سيطيح به على شاكلة فضيحة ووتر جيت، التي أطاحت بالرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون.

سعى ترامب وحلفاؤه في المنطقة إلى إشعال حرائق تُمكنه من اقتناص الظرف، وتمكين مشروعه الحلم، وكان أولها حصار قطر الذي فشل بفعل اختراق إيران له، ثم التفاف تركيا عليه، ثم مساندة مؤسستي الخارجية والدفاع للموقف القطري.

فسعوا إلى الحريق الثاني وهو انفصال إقليم كردستان العراق (ليكون مصدرَ إقلاق، ومهددا دائما للأمن القومي الإيراني والعراقي)، والذي اخترقته إيران، وأفشلت مساعي مسعود البرزاني، وجعلته ينتحر سياسيًا، ويواجه مصيره ونهاية مشروعه وحيدًا دون معين أو شفيع. ثم أتى الحريق الثالث عبر سعد الحريري وسيناريو استقالته واحتجازه بقصد إشعال لبنان من الداخل، والذي انتهى بترحيله إلى لبنان، وعدوله عن استقالته، كما يعلم الجميع. وفي الأخير، كانت الورقة الأخير والحريق الرابع المرسوم، وهو إشعال صنعاء واحتلالها بفعل عرض تعاون من علي عبدالله صالح، لتصبح تحت تصرف التحالف، وينهي النزيف الدموي والمالي للتحالف، فيتفاجأ التحالف بوهن حليفه صالح، وهشاشة بنيته، وغياب تأثيره، بفعل اختراق أنصار الله وحلفائهم لموروث صالح، ونفوذه، وتقليم أظفاره، فينتهي صالح وحلم السيطرة على صنعاء بفاجعة غير متوقعة.

لم يعُد خافيًا اليوم حجم الربط وضراوة الصراع بين مشروع التطبيع ومشروع المقاومة، وتعدد جبهاته، وتنوع وسائله، وهو في النهاية لخدمة المشروع الصهيوني وتكريسه كواقع لابد من القبول به والتعايش معه، وفي المقابل لا يمكن إنكار أو تجاهل حجم الاختراقات والانتصارات للتيار المقاوم، والفارق بين الفريقين أن التطبيعيين يعملون بضجيج وصخب وبآلة إعلام هوليوودية، والمقاومون يعملون بصمت وبأثر بالغ في الميدان.

------------------------

قبل اللقاء: الصراع الضاري اليوم بين مشروعيْ التطبيع ومقاومته، جعل بعض التطبيعيين يجهرون بالمعاصي ويفخرون بها.. وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

الأكثر قراءة