نـزوح

هالة عبادي - سوريا


كان يوم 20/6 يوماً مشهوداً بالفعل لم تزل تذكر تماماً كيف أخلي المبنى الحكومي الذي تعمل فيه و سائر المباني القريبة المجاورة له تحت حماية وحدات من الجيش... انطلقت بسرعة الهاربة من الموت منزلقة إلى حارات ضيقة أكثر أُنسا بتلاصق بيوتها ودنو نوافذها بعد أن خلت الشوارع إلا من آليات الجيش وعناصره....
كانت أكثر اطمئنانا وقد أصبحت على مقربة من البيت فوجدت أنه لم يزل لديها ما يكفي من الوقت للاطمئنان على ابن جيرانها الذي أصيبت ساقه أثناء مروره بسيارته بالقرب من نادي الضباط ليلة أمس حين تم تبادل لاطلاق الرصاص... ابتسمت جارتها لجرأتها على المشي في مثل هذه الظروف وشكرت مبادرتها وهي تودعها عند الباب وكانت هذي آخر مره لخروجها من البيت...
كان الحذر قد حمل الناس على أن يقصروا خروجهم من منازلهم على الحاجات الملحة والضرورية فقط... وحدهم الموظفون الحكوميون كانوا يتابعون أشغالهم مشحونين بالخوف والقلق...
بعد ثلاثه أيام من الاختباء كان لابد من الخروج لاستطلاع الأمر... أعداد كبيرة من العوائل كانت قد بدأت بالنزوح ولم يبق إلا القليل من سكان الحي لذا قرروا اللجوء إلى البيت الكبير كانت مساحته وعاداته تسمح بمثل هذا الاستقبال على الدوام ولهذا لم يترددوا باللجوء إليه... بطريقة ما استطاعت عدهم نحو 65 شخصاً بين امرأة وطفل في القبو الكبير وقد فهمت أن نحو نصف هذا العدد كان من الذكور البالغين وقد تم عزلهم في القبو الآخر.... أدى الخوف الذي ألم بها إلى أن تجثو باكية على ركبتيها وقد حضنت أطفالها الأربعة.
هناك من تولى شرح الأمر... هذا التجمع سيستمر ما استمر الذعر المنتشر في المدينة وتمّ إيضاح الترتيبات التي يقتضيها مثل هذا الأمر.
دهشت في البداية للعدد الكبير إذ لم تعتد هي وأطفالها على الاحتكاك دفعة واحدة بهذا الكم من الناس أهلها سابقاً كانوا المالكين لهذا الحي وإن تقلصت أملاكهم مؤخراً إلى عدد محدود من البيوت فيه لكنها لم تزل تعيش نمط حياة العائلة القديم... وللتخفيف من وقع ساعات الحصار البطيء والكئيب قامت بأداء ما يمليه الواجب في مثل هذه الظروف من خدمة ومساعدة للموجودين.
مع ساعات المساء أعلنت ماتشبه الهدنة فتفرقوا كل إلى بيته وبقي باب البيت الكبير مفتوحاً للعودة عند أولى إشارات الخطر.
بدأت حرارة الصيف بالتزايد ولم يبق إلا شهر ربما وعدة أيام على استقبال شهر رمضان حين بدأت تهديدات المسلحين لإخلاء البيوت كانت الساعه الخامسة من يوم 25/ 6 مفعمة بالقلق والدموع قبل أن يعلن أخيراً وصول الجميع سالمين إلى أقبية البيت الكبير... مع إقامة هذا العدد صارت ساعات الراحة أقل.. لكن إمكانيات المساعدة لم تتراجع أبدا.
بسهوله تم توزيع المهام على الموجودين كل حسب فئته وقدراته... وكانت أجواء المحبة والتعاون التي عمت الاجتماع والاختباء القسريين قد أضفت عليهما الكثير من المرح.... لم تخل أيامهم من ضحكات الأطفال وصيحاتهم وهم يلعبون غير عابئين بالحرب الدائرة خارج أسوار البيت ولا المسلحين الذين أخذ انتشارهم يزداد يوماً بعد يوم.
بدا الالتزام بتأمين الاحتياجات واضحاً بدخول شهر رمضان وشمل تأمين حليب الأطفال والسكاكر وكافة مستلزماتهم الأخرى . كانت هي أيضاً لا تزال على التزامها التام بأداء واجباتها تجاه الموجودين مع ازدياد خوفها على أولادها ومحاولة عزلهم عن كل ما يجري حولهم من قسوة و دمار حتى كانت تبسط يديها ليلاً وسائد لهم ليسهل عليها ضمهم لأدنى إشارة خطر كانت تنام بكامل ثيابها وكأنها مستعدة دوما للخروج... يفزعها أدنى صوت فتتفقد الأولاد من حولها... قد تغفل عينها لكن قلبها لم يكن ينام.
كانت غرف المنزل الكبير جيدة ومناسبة للنوم كل الموجودين بشيء من الراحة عند هدوء القتال في الليل بينما تمضي ساعات النهار وبعض من المساء في الأقبية حين تزداد حده القتال و عنى هذا بعد تحقيق حلمها في الانتقال إلى بيتها الجديد.
أشارت قلة تردد غير المقيمين في الملجأ من مجاوري البيت الكبير طلبا للمؤن إلى حدة وضراوة القتال في الخارج لكن التفسير جاء واضحاً عندما طرق أحد المسلحين باب البيت الكبير منذرا بوجوب إخلائه قبل مضي 72 ساعة .
استقبل الموجودون الإنذار بالسخرية والاستهزاء وانتظروا مرور هذه العاصفة أملا بأنها لن تطول... إلا واحداً تملكه الذعر وقد تأخر عن موعد علاجه الكيماوي فقد كان مريضاً بالسرطان ووجد نفسه مضطراً للمخاطرة بالخروج والسفر مصطحبا أفراد عائلته جميعاً بينما استمر الاخرون بالحياة في القبو على النحو السابق نفسه... ازداد الضغط عليها عندما بدأت المواد المخزنة بالنفاد بدخول الشهر الثاني للحصار كانت الاحتياطات التي اتخذتها غير كافية وقد بدأ الحليب بالنفاذ وأمام إلحاح رضيعها بالبكاء اشترت بخاتم زواجها ماكان يحتاجه من الحليب وكان هذا آخر ما كانت تملك بعد أن أنفقت المال والذهب في تجهيز بيت لم تسعدها الظروف بالانتقال إليه وكان كل نصيبها منه نظره أخيرة أثناء عبورها الشارع آخر مرة مفارقة.
عصر اليوم الثالث للإنذار وكان قد وافق العاشر من رمضان أعلن المسلحون نهاية المهلة بصاروخ ألقوه على البيت الكبير ... حجب الدمار والدخان رؤية وسماع أصوات الموجودين فيما بينهم ... تهاوت حجارة جدران الطوابق العلوية والأسقف فوق رؤوس الموجودين في ذلك البيت وأشعل الحريق خزانات المازوت المملوءة وطالت النيران الكثير... وما إن تكشفت الرؤية قليلاً حتى سارع الرجال إلى إطفاء الحريق وإنقاذ ما تبقى... اتضح حجم الدمار الكبير وعظمة وسعة الرحمة الإلهية فقد امتدت يد الله الحانية لتحمي كل الموجودين... ولوحظ صاحب البيت الكبير يسجد شكراً لله فقد كان مكان سقوط الصاروخ مكان إقامة المصاب بالسرطان مع عائلته وشكر لطف الله الذي نجاهم أجمعين.
وفي جو من التوجس والقلق تناولوا طعام إفطارهم صامتين مذهولين... لم يكن الإفطار سوى تمر وبعض الطعام الجاهز المعلب حيث شمل الدمار قدور الطبخ الكبيرة و خلط الطعام فيها الحجاره و التراب...
مرت الساعات التالية قاسية بما حملته من توتر و رعب و صار أمر المغادرة واجبا لا مفر منه ... لم يكن من السهل تأمين سفر الجميع.... يتطلب الأمر الكثير من المخاطرة الركض حينا والزحف حينا آخر وصولا إلى مكان آمن يمكن استخدام وسيلة للمواصلات فيه... اتصالات كثيرة.. عصبيه .. توتر ...قلق... وبعض صرخات من الغضب... دموع احتبست في عيون النساء و عم الجميع صمت كئيب.
لم يكن مهما المبلغ المدفوع ولا السرقات التي تلته أمام وصول جميع الأطفال والمسنين وباقي الموجودين سالمين وهذا ما تم التخطيط له بدقة ومع ساعات الفجر الأولى بدأ التنفيذ.
رافق خطوات الرحيل الكثير من القذائف فقد زامن موعد انطلاقها فجرا... لم يكن الوقت يسمح بالتدقيق في الأحياء التي عبروها لكن حجم الدمار كان مروعا وبدت المدينه كمدينة أشباح... وقد خلت تماماً إلا منهم وكأنهم كانوا آخر الراحلين... أسعفتهم ذواكرهم بأسماء بعض الشوارع التي محيت ملامحها تماما وكذا أسماء عوائل سكنتها... وكان التذكر حينها غاية في الصعوبة ... وسط هذا الجو المشحون تم الوصول إلى حي أكثر أمنا ولساعات انتظار طالت عاود التوتر والقلق... كان من الخطر تأمين سفرهم جميعاً كقافلة على الطريق لكن التخلي عن هذا الشرط في مثل هذا السفر كان ضرباً من المستحيل.
استمرت المفاوضات حتى ساعات الظهيرة حينها تم تسوية الأمر وبدأت القافلة المسير.
ظل الخوف مخيما على الجميع حتى قطعوا الجسر الكبير فوق النهر وكان عبوره يعني الكثير.
جزعت حين لم تكن تملك أجرة الطريق لكن هناك من ساندها للمضي مع القافلة ضمت أولادها الأربعة طيلة الطريق وكادت على الحاجز أن تودع قلبها حين استدعى الجندي اثنين من أولادها حاولت اللحاق بهم لكنه أعادها بإشارة من سلاحه... دفنت وجهها بيديها أغمضت عينيها وصمت أذنيها وقد استبد بها الهلع حين توارى الطفلان خلف خيمة الجندي لم تكن تريد أن ترى أو أن تسمع ما لا تطيق... لحظة نزولهم تمنت لو أنها بقيت هناك حيث الدمار فالأمر الآن بات سيان... استمر بها الخوف حتى سمعت صوت ابنها... وحدها ضحكته أعادت لها معنى الحياة... حضنته باكيه لاعنة الأمومة والجيش وحتى قطعة البسكويت التي حملها الطفل من الجندي كهدية في الطريق.. وبين أشباح الخوف والرجاء لاحت لهم لوحات رافقتكم السلامة.... محافظة (....) تودعكم.... محافظة (...) ترحب بكم .... لوحات كان فيها لهم الكثير من المعاني .... وبدموع امتزج فيها الفرح بالحزن ودّع الجميع حدود المدينة في أولى محطات النزوح.

تعليق عبر الفيس بوك