د. عبدالله باحجاج
تعقد هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية خلال الساعات المقبلة مؤتمرها السادس حول علاقات عمان مع الخليج ودول المحيط الهندي خلال القرنين السابع عشر والتاسع عشر في الكويت الشقيقة لمدة ثلاثة أيام، وبمجرد أن تلقيت الدعوة للحضور والمناقشة، أثارني عنوان المؤتمر منذ الوهلة الأولى، ونفس الإثارة نجدها كذلك في المكان والتوقيت الزمني، فلماذا الآن؟ ولماذا الكويت؟
ولما اطلعت على محاور المؤتمر، وأهدافه وبحثت في مؤتمرات الهيئة السابقة، تأكد لي صحة فضولي الإعلامي وحسي السياسي، فوراء عقد هذه المؤتمرات خارج البلاد غايات كبرى، واستهدافات تاريخية لبعث رسائل سياسية معاصرة، لعلها تكبح جماح العابثين بالجغرافيا الإقليمية دون وعي، أو تحت جموح الاستقواء الوهمي أو الوقتي، ولعلّها تفتح لدول المحيط الهندي الآفاق لتعاون أعمق في كل المجالات انطلاقا من المنظور التاريخي، وهذا هو الخيار العماني - ممثلة في هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية - الرهان دائمًا على المخزون التاريخي الحضاري للمنطقة، لفهم الواقع، وتحديد محددات وحاكمية الحاضر. وفتح آفاق المستقبل، بمعنى أنّ الهدف ليس إحياء الذاكرة العمانية ولا ذاكرة المنطقة بالبعد الحضاري الجامع والمشترك لها خلال القرنين (17- 19) وإنما كذلك مدى انعكاساته الإيجابية على هذه الدول في تاريخها المعاصرة، وحتى لو لم تكن هذه الرسالة الأخيرة مستهدفة لذاتها من المؤتمر؛ لكنها كذلك، وتدخل في صلب النتائج التلقائية والبديهية لهذا المؤتمر العلمي؛ لأن إحياء الذاكرة الوطنية أو لدول المنطقة عن طريق مثل هذه المؤتمرات له جانبان: الأول، تبني البحث العلمي المجرد عن الهوى والنزعات الإقليمية، وكشف الواقع كما هو من خلال مصادر أصلية.
والثاني، توظيف ما يكشفه البحث العلمي لصالح التعايش بين دول المنطقة الذي هو ضمانة الاستقرار والسلام في المنطقة.
من هنا، فإنّ مؤتمر عمان وعلاقاتها مع دول المحيط الهندي والخليج، سيغوص في الذاكرة المشتركة لدول هذه المنطقة، وسيكشف الضرورات المعاصرة للتعايش بين هذه الدول من منطلق الروابط التاريخية والعلاقات التاريخية التي تربط شعوب ودول هذه المنطقة، لن نستبق المؤتمر ونتائجه، وتظل تلكم قراءة من قرب بعد أن وصلنا للكويت للمشاركة والمناقشة في هذه المؤتمر، وهي قراءة يدعمها اطّلاعنا على المؤتمرات الخمسة السابقة التي عقدتها هيئة الوثائق والمحفوظات العمانية في بعض الدول التي ارتبطت تاريخيا ببلادنا بعمق حضاري وثقافي، يشكل الآن أهم الخبرات التي تشكل الفكر السياسي للدولة العمانية المعاصرة في شأنها الداخلي وفي تحديد معالم سياستها الخارجية العمانية، وتحصنها من المتغيرات التي قد تطرأ بسبب التحولات أو الصيرورات.
هذه حقيقة قد تجلت لنا بوضوح مثلا في مؤتمر الهيئة الدولي الذي عقد في جمهورية بوروندي تحت عنوان "موضوعات بحوث الحضارة والثقافة الإسلامية والدور العُماني في دول البحيرات العظمى الأفريقية" ومن خلال البحوث التي نوقشت في المؤتمر تم الكشف عن الجوانب الحضارية لعُمان ودورها القيادي وإسهاماتها الفعّالة في هذه المناطق، وكذلك مؤتمرها "عمان قريبة وإن كانت بعيدة "بطشقند، ومساهمة السلطنة في بناء مكتبة ابو ريحان البيروني، وكذلك مؤتمرها في باريس الذي حمل عنوان "عمان في الوثائق الفرنسية، ومما يلفت الانتباه في هذه المؤتمرات مشاركة باحثين ومؤرخين وعلماء محايدين من مختلف دول العالم، وبصرف النظر عن أيديولوجياتهم ومذاهبهم السياسية، شريطة توفر الشروط الموضوعية لدراساتهم العلمية فيهم، ومن يلفت كذلك الدراسة المعمقة والمتوغلة في البحث عن تأثير الهجرات العمانية نحو الحضارات العالم، وكيف أثرت فيها إيجابا، إلى مستوى أنّها غيّرت مجرى التاريخ في المناطق التي وصلتها.
لماذا تقوم السلطنة الآن بمساعي إحياء الذاكرة المشتركة للدول التي ساهمت معها في تحقيق الاستقرار والسلام، والازدهار التجاري من القرن (17- 19) الميلادي؟ تساؤل سنحاول الإجابة عليها من خلال رسالة المؤتمر السادس لهيئة الوثائق والمحفوظات المعنون باسم "علاقات عمان بدول المحيط الهندي والخليج من القرن 17- 19" والذي يبدأ اليوم الإثنين في الكويت ولمدة ثلاثة أيام، سنرى إلى مدى يمكن للذاكرة المشتركة لهذه الدول أن تحصن علاقات هذه الدول المعاصرة من جموح أو جنون الجغرافيا؟ وكيف يمكن الرهان عليها في بناء منظومة علاقات ومصالح في عالم اليوم المتغير؟