عبيدلي العبيدلي
في سلوكٍ رأى فيه معظم المتابعين للسياسة الخارجية الأمريكية، ومعهم من يراقب سير عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية، شيئا من "النزق السياسي الذي لا يليق بدولة عظمى من مستوى الولايات المتحدة"، عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل السفارة الأمريكية من "تل أبيب إلى القدس"، وبرر ذلك بالقول: "اتخذت قراراً أنه حان الوقت للاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل"، معتبرا في كلمة ألقاها من البيت الأبيض أنه "لا يمكن حل كل المشاكل من خلال الفرضيات الفاشلة نفسها، (متوهما أن مثل هذا الإعلان) يشكل بداية لمقاربة جديدة تجاه النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين".
رأى البعض في ذلك القرار اغتصابا جديدا للمدينة المقدسة، التي لم يكتف ترامب بغض الطرف والتجاهل عما قامت به سلطات الكيان الصهيوني من تشويه لمعالمها، وتزوير لتاريخها وواقعها، بل أمعن في غيه، حين قال: "إن القدس هي القلب النابض لديمقراطية تعتبر من الأنجح في العالم".
وكما يبدو، فإن سلوك ترامب هذا الذي دأب على الأخذ به، حتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض، خلال حملاته الانتخابية الرئاسية، غاب عنه أن مكانة القدس وقدسيتها ليست حصرا على ديانة واحدة، ولا مِلَّة معينة، فهي كما تقول عنها إريكا شيرنوفسكي من هيئة الإذاعة البريطانية: "تحتل مكانة متميزة في قلوب المسيحيين واليهود والمسلمين؛ حيث يتحدث التاريخ عن قرون من التعايش ومن النزاع بينهم حول هذه المدينة".
توالت ردود الفعل الشاجبة والمعبرة عن استيائها من هذه الخطوة الأمريكية من العديد من عواصم العالم، وكانت الأولى من بينها من العاصمة اللبنانية على لسان الرئيس اللبناني ميشال عون، الذي شدد على أن "قرار الرئيس الأمريكي يهدد عملية السلام، واستقرار المنطقة".
من جانبها، أعلنت الفصائل الفلسطينية أن "الأيام الثلاثة المقبلة أيام غضب في الداخل ومخيمات الشتات". ورأت حركة حماس أن "قرار ترامب سيفتح أبواب جهنم على المصالح الأمريكية". بينما اعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن "قرار ترامب بشأن القدس يدمر أي فرصة لحل الدولتين". كما شددت حركة الجهاد الإسلامي على أن "قرار ترامب يشكل إعلان حرب ويجب النهوض لمواجهته".
وبدوره، أكد العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، للرئيس الأمريكي "أن نقل سفارة الولايات المتحدة في إسرائيل إلى القدس سيضر بمفاوضات السلام، وسيستفز مشاعر المسلمين".
سَيْل من ردود الفعل العربي والدولي توالت على تلك الخطوة الأمريكية، لكنها لن تحرك ساكنا، عندما يتعلق الأمر بقرار البيت الأبيض، الذي ربما بحاجة لفترة من الزمان تطول على فترة بقاء ترامب فيه، قبل أن يتم النقل الفعلي للسفارة.
من الضرورة بمكان التوقف هنا عن الأسباب المحتملة التي تقف وراء هذه الخطوة الأمريكية، التي اعتبرها الكثير من المؤسسات والجاليات الدينية -بما فيها تلك اليهودية- حركة سلبية غير مسبوقة في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
الاحتمال الأول الذي يرد أمام ناظري المتابع للصراع وللسياسة الأمريكية الداخلية منها والخارجية، هو أن القرار لا يعدو كونه فاتورة متأخرة الدفع يسددها ترامب لجماعات الضغط الصهيونية التي كانت وراء وصوله إلى البيت الأبيض، والتي لم يكف ترامب عن مغازلتها منذ أن أعلن نيته للترشح. ومن ثم، فمن غير المستبعد ألا يتجاوز القرار حدود الدعم السياسي، القائم على زوبعة إعلامية؛ وبالتالي فهو لن يعرف طريقه للتنفيذ.
الاحتمال الثاني هو تحضير واشنطن، ومن غير المستبعد بتعاون مع الكيان الصهيوني، لمشروع إستراتيجي يتعلق بإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، بما يحقق المزيد من المكاسب للمشروع الاستيطاني الصهيوني، ومن ثم تبدأ المساومات حول تأجيل خطوة نقل السفارة للمقايضة مع تلك المكاسب.
الاحتمال الثالث، هو أن يكون بندا في سلة صفقة دولية جديدة، تدخل على الخط فيها قوى عالمية أخرى، في مقدمتها روسيا؛ من أجل إعادة تقسيم كعكة الشرق الأوسط بموجب اتفاق يراعي مصالح الدول ذات العلاقة، ومن بينها الكيان الصهيوني.
لكن بعيدا عن تلك الاحتمالات، ينبغي معالجة القرار، ومن منظار إستراتيجي، على أنه أحد مؤشرات الضعف والتدهور اللذين باتتا تعاني منهما واشنطن. فمن الضرورة بمكان ربط هذه الخطوة بظاهرتين أساسيتين عرفهما البيت الأبيض في الآونة الأخيرة: الأولى ذات بعد داخلي، وهي القرارات المتخبطة التي يلتزم بها ترامب، ثم لا يلبث الإعلان عن التراجع عنها، وفي مقدمتها موضوع حق السفر للولايات المتحدة، والإجراءات المرتبطة بها، وما رافقها من تفسخ في جدران ذلك البيت التي عبرت عن نفسها في استقالات جماعية ولجوء بعض أعضاء الطاقم الإداري إلى الكذب، كما حصل مع مستشار الرئيس دونالد ترامب السابق لشؤون الأمن القومي مايكل فلين، بالكذب على مكتب التحقيقات الفدرالي، وما سبقه من استقالات من بين الأبرز فيها استقالة المتحدث باسم البيت الأبيض شون سبايسر.
هذا على الصعيد الداخلي.. أما على النطاق الخارجي، فتكفي العودة لما ورد في مقالة الباحث المصري أحمد النجار، التي تكشف مدى التراجع الذي بات يعاني منه الاقتصاد الأمريكي، الذي عبر عنه التراجع في النسبة التي يشكلها الناتج القومي الأمريكي من الناتج العالمي. يقول النجار واصفا هذا التراجع قائلا: "أما الولايات المتحدة، فقد بلغ ناتجها القومي الإجمالي نحو 13.9 تريليون دولار تعادل 26.3% من الناتج العالمي عام 2007، وبلغ فى العام 2013 نحو 16.9 تريليون دولار تعادل 22.2% من الناتج العالمي. وإذا أخذنا بالناتج المحسوب بالدولار طبقا لتعادل القوى الشرائية -وهو الناتج الحقيقي- فإن الناتج القومي الإجمالي الأمريكي كان يشكل نحو 21% من الناتج العالمي عام 2007، وتراجع إلى نحو 16.6% فقط عام 2013."
في اختصار، ومع شجب هذا القرار، لكنه فعل يقوم به رئيس دولة تعاني من دبيب التدهور في أوصالها، وليست دولة ناهضة قوية تطمح أن تمارس دورا عالميا يليق بها.