أبكيتني يا عم

 

عيسى الرواحي

تقوَّس ظهره، وفقد بصره، وضعُف حاله، وجاوز الثمانين من عمره، لكنَّه لم يترك الصلاة في المسجد، مستعينا بالله ثم بعصاه التي يتوكأ عليها ويعرف بها مسالك الطريق، ورغم قرب منزله من المسجد فإنَّه لضعفه وفقدان بصره يحتاج وقتًا غير قصير حتى يصل إلى المسجد الذي يصلي فيه، وكأنَّه يستحضر دائما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم".

قبل أربع سنوات، أي عام 2013م، تعرض لجلطة دماغية، دخل على إثرها العناية المركزة بمستشفى جامعة السلطان قابوس؛ حيث أصيب بشلل نصفي، وبعد أيام قليلة خرج من المستشفى ولله الحمد، لكنَّ خروجه من المستشفى لا يعني أنّه تماثل للشفاء، بل كان عاجزا تماما عن استطاعة الوقوف نهائيا، فكيف يستطيع الحركة أو المشي؟! وفيما أحسب أنَّ أغلب أقربائه -إن لم يكن جميعهم- وكل من زاره ورأى حاله لم يكونوا متفائلين أنه سيعود لوضعه الطبيعي، أو أنَّه سيصبح قادرًا على الحركة والمشي، خاصة وأنَّه رجلٌ مسنٌ.

لكنَّ معنوياته كانت مرتفعة رغم شدة المحنة، وتفاؤله بالعودة للحركة والمشي على أقصى درجاته، وحرصه على امتثال التعاليم الطبية المتعلقة بهذه الإصابة البالغة قلَّ أن تجد لها نظيرًا، أما أمله ورجاؤه بالله أن يكتب له الشفاء، وشوقه ورغبته أن يستطيع المشي فيصلي في المسجد، فتلك مما أبكيتني بها يا عمَّ.

بعد أيامٍ قليلة من خروجه من المستشفى، أخذه أبناؤه -جزاهم الله خيرًا- خارج البلاد للعلاج؛ فقد كان يؤمن إيمانًا تاما أن الله قادرٌ على شفائه، إذ كان يردد كثيرا: من أنزل السقم قادرٌ على رفعه. لكن عليه أن يرضى بقضائه ويسعى لعلاجه في أي مكان من غير ضجر ولا تذمر، وكأنَّه موقنٌ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء".

وشاء الله له ما كان، وحقق له ما أراد، وهكذا فمن صبر واحتسب فإنَّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، فقد تماثل للشفاء بفضل الله تعالى رويدا رويدا، وبدأ بالحركة شيئا فشيئا، وغالب نفسه بالمشي الهوينى فالهوينى، حتى أصبح قادرًا أن يخرج للمسجد فيصلي فيه الصلاة بعد الصلاة وإلى يومنا هذا، وأن يذهب إلى غير ذلك مما يكتب الله له فيه السعي والمثوبة، ولعل من يراه يمشي للمسجد يكاد يجزم في نفسه أنَّه صاحب عذر لو صلى في منزله لارتفع عنه الحرج، لكن لعل آخرين يرون أنَّه يستحضر في ذهنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم: "لا أجد لك عذرًا".

إنَّ في مخيلتي، وربما مخيلة كل قارئ، أناسًا كثيرين -خاصة كبار السن- ابتلوا بأقل مما ابُتلي به هذا الرجل، فانهزموا للمرض، وتحطمت معنوياتهم، وانهارت نفسياتهم، ويأسوا من الشفاء، فتركوا العلاج والأخذ بالأسباب، واكفهروا في وجه الحياة ومن عليها، وصار التبرم والضجر سيماهم في وجوههم، وصورا لأنفسهم ولمن يجلس بجانبهم أنَّهم وحدهم على هذه البسيطة مرضى وغيرهم الأصحاء، وأنَّ أمراضهم لا علاج لها ولا شفاء، ومن كان هذا ظنُّه بالله، فالله سيكون عند ظنَّه به، فليظن العبد بربه ما شاء. وهذا ما يثبته الطب اليوم بأنَّ الحالة النفسية عند المريض تؤدي دورًا كبيرا في سرعه تماثله للشفاء، وكأنَّك يا عمُّ تستحضر قول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني".

يتقدم العمر بك يا عم، وتضعف قواك شيئا فشيئا، وأراك تقطع الأمتار البسيطة في مشقة تتضاعف ووقت يتزايد، لكني أشعر بل ألمس أنَّ معنوياته ترتفع أكثر منذ ذي قبل، وإيمانك بأَّن الحياة أجمل مع الكفاح والرضا يزداد، فهو لا يقصر خروجه من البيت للمسجد فحسب، فتراه يصل رحمًا، ويعود مريضًا، ويلبي دعوةً إن استطاع إلى ذلك سبيلا، فكم مرةً يا عم -على ضعف حالك- أراك زائرا لي بالمنزل، مهنئا أو عائدا أو واصلا، وكيف لي أن أنسى يوم كنتُ على سرير العافية قبل أشهر قليلة بمستشفى خولة، فإذا بي أراك قد أتيتَ على كرسي متحرك تعودني مطمئنا على حالتي، فلم أتمالك الدمع حينها.. فقد أبكيتني يا عم!

ورغم أنَّك في الأسابيع الأخيرة تتعرض لحالات تعجز فيها عن استطاعة الوقوف على رجليك، ويعجز عصاك أن يسعفك، فإنَّك ما زلت راغبا فيما عند الله من صحة وعافية، وساعيا إليها في تلمس العلاج، وإذ تعود إليك صحتك فتستطيع المشي -وإن بصعوبة بالغة ومغالبة كبيرة- فهذا لا يمنعك أن تعود إلى المسجد ثانية فتصلي فيه مع المصلين ولو بعض الصلوات، كما لم يمنعك أيضا من عيادتي مؤخرًا بالمستشفى وأنت على هذه الحالة من الضعف والعجز. كيف تعود مريضًا وأنت الأشد ضعفا وعجزًا؟! أم أنَّه الخلق النبوي قد تغلغل في وجدانك بشأن صلة الرحم وعيادة المرضى؟! وأي محبةٍ وتقديرٍ، وأي خُلقٍ أسرتني به وأبكيتني يا عم؟!

وأنت يا عم في شؤونك الأخرى كثير الصمت قليل الكلام في محيط مليء بالصخب والضجيج، ويكأنَّك تطبق قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

وعهدي بك يا عم أنك صاحب مبادئ قوية، وقيم لا تتضعضع للأهواء والتبعية والأمزجة، فإن كنت ضعيفَ الجسد فإنَّك قوي الرأي والكلمة، فقد قلت "لا" حيث يتطلبها الوضع؛ ففيها تصنع لنفسك مواقف العزة والإباء، وقلت "نعم" في وقتها صانعًا لنفسك مواقف الخير والصلاح، وذلك هو المنهج النبوي الذي تتمثله يا عم "لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنَّا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا".

ختامًا.. فإنَّه وإذا كانت لفظة "عمي" تُسعد القلب وتبهج الخاطر وتريح النفس عند نطقها أو سماعها، فليس بالضرورة أن يُنادى بها أخو الأب، وليس بالضرورة أن تسمعها من ابن أخيك فحسب، فكل من كان في مقام أبيك سِنًّا أو إجلالا، فُحق له -بل حُقَّ لك- أن تناديه بهذه اللفظة الدالة على قربك منه أو احترامك له، ولقد كان ابن عم والدي في الحب والتقدير وحسن المعاملة لنا بمثابة العم إن لم يكن قد فاقها، وبلقائه والنظر إلى ملامح وجهه وسماع نبرات صوته تكاد تتمثل لي صورة أبي -رحمه الله- أمَّا عمي هذا -حفظه الله- فلم يكن حديثي عنه سردا لسيرة ذاتية، أو حديثا عن ذي قرابة؛ وإنَّما رأيتُ من واجب القلم أن أتحدث بما سمح به المقام عن بعض صفات رجل جاوز الثمانين من عمره، يعجز أو يتعاجز عن الإتيان بها ممن هم دونه أو ممن هم في ريعان شبابهم...والله المستعان.

issa808@moe.om