ثقافة الأطفال: الأهمية والمضامين والأدوار (1- 2)

د.عامر العيسري – سلطنة عمان


الثقافة هي النور الذي يضيء طريق مستقبل حياة الناس والمجتمعات، وهي دعوة متجددة للإدراك والوعي ولفهم العلوم والمعارف، تسهم بفاعلية في تشكيل شخصية الانسان طفلا كان أم كهلا فهي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، وهي التي تصنع الإنسان وهو الذي ينتجها، وتشمل الثقافة على مجموعة من المظاهر والأشكال في المجتمع تميّز كل مجموعة بشرية عن مجموعة أخرى، وتتمثل في كل ما أنجزه الإنسان وما يتميز به عن الكائنات الحية من معارف ولغة ومخترعات وعادات وتقاليد وممارسات، ومعتقدات وقيم، وفنون وآداب، وقواعد ومعايير لكيفية ممارسة الحياة يجدها الفرد منذ ولادته كرأسمال أساسي في البيئة التي ولد فيها وتتضمن جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، أي أنها كل ما صنعته يد الإنسان وعقله من أشياء ومن مظاهر في البيئة الاجتماعية ، وتختلف الثقافة من فترة لأخرى، ومن حقبة لأخرى، ولكل مجتمع وسائله وطرائقه ينقل بواسطتها ثقافته من زمن إلى آخر ومن جيل إلى جيل عبر الأفراد والمؤسسات المختلفة.
وهناك عوامل عديدة يمكن أن تسهم في تحديد نوع الثقافة المناسبة للفرد منها: المستوى المادي والتعليمي للفرد والأسرة، والمعتقد ، والبيئة الجغرافية، والنظام السياسي، وطبيعة العصر، وتوجد عوامل أخرى تؤثر في تغيير ثقافة المجتمع فهي كثيرة وأبرزها: العلوم والمؤسسات التعليمية ، والثورات والحروب، والأحزاب والنقابات المهنية، والاحتكاك الثقافي بالشعوب الأخرى، والطلائع الشبابية، والعامل التكنولوجي التقني ، والبيئة المحيطة ، والإعلام.
فالهوية الثقافية العربية – على سبيل المثال - تشكلت من عدة عناصر مترابطة ومتكاملة، ومن أهم هذه العناصر:
(1)    اللغـة: حيث تعتبر المكون الأساسي للهوية الثقافية، فهي نبض الحياة المستمر للمجتمعات والحضارات، فاللغة في أي مجتمع ليست مجرد كلمات وجمل للتفاهم بين أفراد المجتمع، ولكنها تشتمل على مكونات عقلية ووجدانية ومعتقدات وخصوصيات المجتمع ، وبالتالي فالحفاظ على اللغة يعني ضمان بقاء واستمرارية المجتمعات.

(2)    الديـن: فالدين الإسلامي هو منبع الهوية الثقافية العربية، حيث يدعو إلي نشر الحقيقة ويتخذ من الإنسان مرتكزا له، فالخطاب القرآني موجه للناس جميعا، كما انه يحدد للأمة فلسفتها الأساسية عن سر الحياة وغاية الوجود، فالإسلام له تأثيره العميق والشامل في هويتنا الثقافية، والتدين هنا لا يعني مجرد ممارسة الشعائر الدينية، بل يتضمن ثوابت كثيرة، منها ما يرتبط بالأسرة وكيفية تكوينها بشكل صحيح، فهذا مكون رئيس من مكونات الهوية الثقافية، ومنها ما يرتبط بالمنهج العلمي الذي اعتمد علي العقل والوحي بشكل متوازن، وهذا  يمثل أيضا ملمحا من ملامح هويتنا الثقافية.


(3)    التاريخ: فلا يمكن لأية أمة أن تشعر بوجودها بين الأمم إلا عن طريق تاريخها؛ الذي يمثل أحد سمات هويتها، فالتاريخ هو السجل الثابت لماضي الأمة وديوان مفاخرها وذكرياتها، وهو آمالها وأمانيها، بل هو الذي يميز الجماعات البشرية بعضها عن بعض، فكل الذين يشتركون في ماض واحد يعتزون ويفخرون بمآثره يكونون أبناء أمة واحدة، فالتاريخ المشترك عنصر مهم من عناصر المحافظة علي الهوية الثقافية ،  وعلى  ذلك يكون طمس تاريخ الأمة أو تشويهه أو الالتفاف عليه هو أحد الوسائل الناجحة لإخفاء هويتها أو تهميشها.  
وتتسم الثقافة بمعناها العام بعدة خصائص من أبرزها: أنها تنشأ في مجتمع معين ويظهر جليا في سلوك أعضائه، وهي مثالية و واقعية قابلة للتناقل من جيل إلى آخر، وتتميز بالدوام والاستمرار عبر الزمن بسبب قدرتها على تخليد نفسها وعلى البقاء بعد انقراض الشخصيات التي تسهم فيها، وهي ميراث اجتماعي مكتسب فالعادات الخاصة بالنظام الثقافي تنتقل وتستمر عبر الزمن كما يشارك فيها كل الافراد الذين يعيشون داخل تجمعات منظمة او جماعات تحرص علي الامتثال لتلك العادات تحت وطأة الضغوط الاجتماعية، كما أن للثقافة وظيفة التوافق فهي تتوافق مع البيئة الجغرافية للمجتمع ومع الشعوب المحيطة بها كما تتوافق المطالب النفسية والبيولوجية للكائن البشري، كما أنها تنظيم يقوم علي التفاعل الاجتماعي بين الافراد ووظيفته توجيه سلوك هؤلاء الافراد، ويشمل مظاهر الانفعال والافكار والمشاعر التي يعبر عنها الانسان عن طريق الرموز بفضل اللغة التي يتعامل بها وبهذه الصفة الرمزية اصبح من السهل انتقال الثقافة.
وعملية التثقيف عملية مستمرّة لا تتوقّف عند سنٍّ معيّنة، إلاّ أنّ اللّبنة الأولى في بناء الإنسان ثقافيا تبدأ منذ الطفولة، وما يُعْطى في هذه المرحلة من مراحل النموّ يعتبر أكثر أهمّية من غيره، فالطفولة تُسْهم إسهاما هامّا، ورئيسًا، وحاسما في بناء الشخصية من شتّى النواحي الاجتماعية، والنفسية، والعقلية، وبالطبع الثقافية، فهي مرحلة نموٍّ يتصف بها الأطفال بخصائص ثقافية، وعادات، وتقاليد تشرّبوها من مجتمعهم، وكذلك ميول وأوجه نشاط، وأنماط سلوكية أخرى تميّزهم عن الكبار. فطفل اليوم إنسان له جميع حقوقه التي أقرّها ديننا الإسلامي بالدرجة الأولى، ومواثيق الأمم المتحدة بالدرجة الثانية. ومن حقّ الطفل إكسابه "هوية" مستمدّة من ثقافته.
من هنا، الحديث عن ثقافة الطفل والاهتمام بها  ليس من باب الترف الفكري، وإنما هو تأكيد على ضرورة من ضروريات الحياة.. فثقافة الطفل هي أسلوب حياة الطفل حسب طبيعة كل مجتمع وهي مجموعة العلوم والفنون والآداب والمهارات، والقيم السلوكية، والعقائدية التي يستطيع الطفل استيعابها وتمثُّلها في كل مرحلة من مراحل عمره، ويتمكّن بواسطتها من توجيه سلوكه داخل المجتمع توجيها سليما ، ويقوم بنقل هذه المعارف والقيم صفوةٌ مبدعةٌ من المجتمع، مسترشدين بالمبادئ الروحية والدينية، والإنجازات الفكرية والفنية للمجتمع، مستعينين أيضا بالعلم فيما يتعلق بخصائص الطفولة ومراحل نموّها واحتياجاتها، وللأطفال في كل مجتمع مفرداتٌ لغويةٌ خاصة بعالمهم، ورصيدٌ لغوي يتصلون به مع الغير، وكذا قيمٌ ومعاييرُ وطرقٌ خاصة في اللعب والترفيه، وأساليب خاصة في التعبير عن أنفسهم، ومع غيرهم، وفي إشْباع حاجاتهم، فضلا عن المواقف، والاتجاهات، والانفعالات، والقدرات الخاصة… إضافةً إلى ما لهم من نتاجات فنية ومادية وأزياء، وأشياء محبّبة إليهم وما إلى ذلك… أي من هذا وذاك كلّه، لهم خصائص ثقافية ينفردون بها، ولهم أسلوبٌ حياة خاصٌّ بهم، وهذا يعني أن لهم ثقافة مميّزة، هي ثقافة الأطفال.
وتتضمن ثقافة الأطفال أيضا غرس التذوق الجمالي، وتنمية الأحاسيس الإنسانية الراقية لدى الطفل عند  تعامله مع الآخرين مثل الأقارب والأصدقاء وحتى الغرباء. يقول "جون ديوي": (الثقافة هي الخبرة في الحياة، وما هي إلا ثمرة التفاعل بين الانسان وبيئته) ، أما في المجتمعات الأخرى فتعني Children Culture (حضارة الطفل وثقافته) أو (ثقافة الطفولة أو عالم أو تراث الطفولة) حيث الطفل هو المحور الاساس  في عالم له وحده ولأقرانه. عالم له تقاليده وتعابيره وأنشطته وقوانينه وقواعده وجده وهزله ولعبه وفكاهاته وأغانيه وأحاجيه حكاياته ومواسمه وأفراحه ومخاوفه. موقعه ساحات الحي أو أفنية البيوت أو شاطئ البحر أو الحدائق و ساحات اللعب أو الأماكن المخصصة للأطفال في البيوت والمدارس. عالم وثقافة وحضارة قابلة للتطور كغيرها من الحضارات الأكبر.
يتبع................

تعليق عبر الفيس بوك