الإِطلالة مِن نوافذِ الورقِ أم نوافذِ الزُّجاجِ؟

د. محمَّد حِلمي الرِّيشة - فلسطين
مترجم وشاعر ورئيس تحرير مجلَّة "القصيدة" ورئيسُ "بيت الشِّعر الفلسطينيِّ


ثَمَّ أَلمَانِ يَتناوَباني، كلَّ مرَّةٍ، حالَ الانتهاءِ مِن كتابةِ قصيدةٍ مَا: أَلمُ الخروجِ مِن حالةِ الغيبوبةِ، وأَلمُ البحثِ عنْ بُقعةٍ لنشرِها تليقُ بحجمِ المعاناةِ، والَّتي أَقلَّتني مِن مَكاني علَى الأَرضِ، ودوَّختْني فِي فضاءَاتِها الدَّائريَّةِ الَّتي تتَّسعُ كدَوائرِ الماءِ وقدْ أُلقيَ فيهِ حجرٌ.

الأَلمُ الأَوَّلُ لاَ فكاكَ منهُ؛ إِذ لاَ بدُّ مِن صحوةِ الشَّاعرِ بعدَ الانتهاءِ منَ كتابةٍ شعريَّةٍ مَا. أَمَّا الأَلمُ الثَّاني، فكانَ فِي ماضِينا باعثًا علَى التَّعبِ المُضافِ إِلى الأَلمِ.

كنتُ أعيدُ تبييضَ النَّصِّ أَكثرَ مِن مرَّةٍ كيْ يستطيعَ المحرِّرُ الأَدبيُّ قراءَتهُ براحةٍ، وبالتَّالي يُساعِدُ عاملَ التَّنضيدِ في جريدةٍ أَو مجلَّةٍ علَى أَداءِ عَملهِ بدونِ أَنْ يُبدِي تذمُّرًا، أَو يُصابَ بنكدٍ، علَى الرَّغمِ مِن جمالِ خطِّي كمَا أَعتقدُ. ثمُّ أَعملُ علَى إِرسالهِ بالبريدِ (لمْ يكنِ النَّاسوخُ "الفاكسُ" قدْ حلَّ بينَ أَيدِينا آنذاكَ)، وهذَا يحتاجُ إِلى عدَّةِ أَيَّامٍ ليصلَ الجهةَ الثَّقافيَّةَ المقصودةَ، وكنتُ أَنتظرُ موعدَ/ يومَ ظُهورِ الصَّفحةِ الثَّقافيَّةِ أُسبوعيًّا، أَوِ المجلَّةِ شهريًّا، كيْ أَرى النَّصَّ منشورًا، وقدْ يُؤجَّلُ لعددٍ، أَو عددينِ، أَو عدَّةِ أَعدادٍ تاليةٍ. هكذَا كانَ الحالُ فِي الماضِي غيرِ البعيدِ. لكنْ فِي الحاضرِ، فقدْ خفَّتْ آلامُ النَّشرِ؛ ليسَ بسببِ الاسمِ الأَدبيِّ فقطْ، بلْ بسببِ النَّشرِ الإِلكترونيِّ الَّذي تكاثرَ، ولاَ يزالُ يتكاثرُ يومًا بعدَ يومٍ، بجمالهِ وبشاعتهِ!

إِذًا؛ كانَ الإِطلالُ مِن نوافذِ الورقِ (جريدةٍ أَو مجلَّةٍ) يشكِّلُ شهادةَ ولادةٍ للنَّصِّ؛ لهذَا كنتُ أَفرحُ حينَ أَراهُ، فأَحضِنُ الجريدةَ، أَو المجلَّةَ، كأَنَّها هديَّةٌ مفاجئةٌ لمْ تكُنْ تخطرُ فِي بالِي علَى الرَّغمِ مِن توقُّعِها، إِلاَّ أَنَّ الإِطلالَ مِن نوافذِ الزُّجاجِ، وعلَى الرَّغمِ مِن مَساحاتهِ الَّتي تتشاسعُ كلَّ يومٍ، قدْ حرَمنِي مِن عبيرِ الحبرِ، ورائحةِ الورقِ، وعناقِ جسدِ النَّصِّ.

لا أَعني بهذَا أَنَّني ضدّ نوافذِ الزُّجاجِ، لكنَّهُ الحنينُ إِلى مَا كانَ يثيرُ أَكثرَ مِن حاسَّةٍ. ثُمَّ إنَّ موضوعَ النَّشرِ ورقيًّا والنَّشرِ إِلكترونيًّا، لاَ يزالُ موضوعَ نقاشٍ فيهِ منَ الاتِّفاقِ مَا فيهِ منَ الاختلافِ، وهذه طبيعةٌ طبيعيَّةٌ بِلا شكٍّ.

وبِما أَنَّ لكثيرٍ منَ الأَشياءِ حَسَنَها وسيِّئِها، فإِنَّه يجبُ الإِشارةُ إِلى أَنَّ النَّشرَ الإِلكترونيَّ أَحدثَ استسهالاً، بلْ وإِسهالاً، فِي الكتابةِ فِيما يدَّعيهِ الكثيرونَ أَنَّ مَا يكتبونَهُ يعتبرُ نصوصًا أَدبيَّةً. هذهِ المشكلةُ لمْ تجِدْ لهَا حلاًّ بعدُ؛ ذلكَ أَنَّ كثيرًا منَ المشرِفينَ علَى تلكَ المواقعِ الأَدبيَّةِ ليسُوا مؤهَّلينَ جيِّدًا لإِدارتِها، وإِذا افترَضْنا الحقَّ الشَّخصيَّ لأَيِّ كاتبٍ فِي نوعيَّةِ مواضيعهِ، إِلاَّ  أَنَّ كمًّا كبيرًا منَ الأَخطاءِ التَّعبيريَّةِ والنَّحويَّةِ وحتَّى الإِملائيةِ يَعتدي بشكلٍ شرسٍ علَى اللُّغةِ، ويَنتهكُها بجَهلٍ كبيرٍ. إِنَّه ومِن خلالِ إِشرافي علَى صفحةٍ ثقافيَّةٍ فِي جريدةٍ، كنتُ أَجدُني كثيرًا مَا أَقومُ بتدقيقِ وتصحيحِ أَو تحريرِ نصوصٍ أَدبيَّةٍ كثيرةٍ، علَى الرَّغمِ منَ الافتراضِ أَنْ تأْتِيني النُّصوصُ خاليةً مِن أَيِّ اعتداءٍ علَى اللُّغةِ بافتراضِ أَنَّ كتَّابَها يتقِنُونَ، إِلى حدٍّ ضروريٍّ، لُغتَهم الَّتي يكتُبونَ بِها، فمَا بالُكمْ بالنَّشرِ الإِلكترونيِّ الَّذي رأْيتُ الكثيرَ منُه، ولاَ أَزالُ أَرى، فِي كثيرٍ جدًّا منَ المواقعِ، يَرتكبُ الكاتبُ فِيها جريمةً تتلُوها جريمةً بحقِّ اللُّغةِ، بلْ وأَجدُ هذهِ الجرائمَ اللُّغويَّةَ يَرتكبُها أَصحابُ ومُديرو المواقعِ الإِلكترونيَّةِ أَنفسِهم! هذَا جانبٌ سيِّئٌ مِن جوانبَ متعدِّدةٍ، لكنَّهُ الأَهمُّ حقًّا.

لكنْ ثَمَّ جوانبُ حسنةٌ لاَ تنكَرُ؛ مِنها مَا يتمثَّلُ بانتشارِ النُّصوصِ الأَدبيَّةِ، وغيرِها طبعًا، فِي مختلفِ بقاعِ العالمِ، مخترقةً الرَّقابةَ الجامدةَ، والمحاذيرَ السُّلطويَّةَ، والحدودَ المكدَّسةَ بالعَسسِ، وتكاليفَ النَّشرِ والتَّوصيلِ الفاحشةَ، وبالتَّالي أَحدثَ هذَا النَّشرُ نقلةً فضائيَّةً عبرَ اختزالِ الجغرافيَّاتِ الشَّاسعةِ إِلى نافذةٍ زجاجيَّةٍ ذاتِ حجمٍ صغيرٍ.

كنَّا هُنا فِي فلسطينَ، وقدْ حاصرَ الاحتلالُ كلَّ شيءٍ، لاَ نستطيعُ التَّواصلَ معَ زملائِنا الأُدباءِ، ليسَ فِي الدُّولِ العربيِّةِ فحَسب، بلْ بينَ منطقةٍ فلسطينيَّةٍ وأُخرى. وحينَ ظهرَ النَّشرُ الإِلكترونيُّ، صِرنا جميعًا أَقربَ إِلينَا منَّا؛ فبِلَمحةٍ خاطفةٍ، قدْ لاَ تُدرِكُها العينُ، تصلُ النُّصوصُ الأَدبيَّةُ حيثُ يشاءُ كلُّ كاتبٍ. كلاهُما وردةٌ..

ولكنْ؛ ثَمَّ فرقٌ واضحٌ جدًّا (لمْ يَزلْ مِن وجهةِ نظرِي، ربَّما بسببِ أَنَّني مخضرمٌ مِن ناحيةِ النَّشرِ) بينَ الوردةِ الحقيقيِّةِ والوردةِ البلاستيكيِّةِ.. أَليسَ كذلكَ؟!

تعليق عبر الفيس بوك