طفولة خالدة

عبد الله زيادة - فلسطين


في دفاتري عناوين كثيرة، وباقة حب، ربما للشخص نفسه الذي كبر بداخلي منذ الصغر، ولم يتغير.. كان طليّقاً لا تقيده الهوامش الفارغة، ويكفر بالمظاهر المزيفة، ولا يؤمن سوى بالحقيقة الباقية.
إن الوفاء إنسان، القيم دول والمبادئ حياة؛ كم أكره الابتسامة العابرة حيث أشعر أن صاحبها يمثل مسرحيته الأخيرة وكم أحب الواثق الذي لا يمرض بالغرو، فكأن الحياة مسلسل كبير  ولكن الأدوار تختلف؛ فهناك من يتصنع الحب، وهناك من يصنعه، وشتان شتان بينهما، وهناك من يتظاهر بالشجاعة، وهناك من يعيشها في سلوكه وأخلاقه.. حقا يؤلمني أن أراك عجوزا وعمرك ما زال يافعا، يؤلمني أن أراك حيّا، وأنت في الحقيقة ميت.. كم يؤلمني حين تصغر وتصغر حتى تتلاشى وتختفي..لا بد لذلك الحب الذي بداخلك أن يكبر ولكن من المحال له أن يصادف أحمق، أو كاذبًا أو دخيلا مراوغا؛ فكلهم صوّر تتحرك؛ لذا وجب أن تصنع إشارة مرور لقلبك لكي لا تصطدم بالمغفلين.

في بسّتان  الذكريات احتسيت القهوة، وزرّعت  قلبي في ظل  زيتونة  البيّت.. أذكر  في طفولتي البعيدة.. معظم الأطفال كانوا ينتظرون مغادرة المدرسة.. لسّماع  القصص التي كنّت  أتلوها عليهم من وحي الذاكرة.. كانوا يصطفون حول كلماتي بصمت المعجب.. كنّت  أمنحهم حرية الاختيار بعدما أطرح عناوين متعددة لقصص وهمية تشد المتلقي بقوة.. ورأي الأغلبية ينتصر في الاختيار.
كانت ظاهرة سامية المضمون؛ بل كانت نزهة  للبحر حتى أنني لم أمكث في البيت سوى الوقت القليل لكثرة من يطلبون تلك القصص؛ في النهار والليل تماما  كان وقتي ملكا  لغايتهم وهوايتي التي تكبر معي.
الجميل في تلك القصص أنها كانت عفوية رزينة هادفة متنوعة، وكانت ابتساماتهم تُشعرني بالسعادة التي تسكن داخلي.. لم أبخل عليهم بثانية من الحب.. وما كان يثير إعجابي أكثر أن أعمارهم متفاوتة ما بين أكبر مني وأصغر سنّا، وكان أخي الأكبر يقسو عليّ بحنان جميل خوفا  من أن تقتل هذة القصص اهتمامي بدراستي وانشغالي بها فقط.. لكنني كنت  أضع برزخا  واسعا  ما بينهما؛ لأفصل بقوة ما بين هوايتي ودراستي رغم أن كلتيهما تكمل الأخرى في حدائق العِلم.
يُذكرني الكثير من أصدقائي اليوم بتلك الذكريات العابرة؛ بل إن الطفولة ما زالت تسكن أرواحهم وعقولهم، فيطلبون مني أن أحدثهم عن تلك القصص مرة  أخرى. لم أتعجب من ذلك بل أفتخر بعمق، فأبلغتهم أن قصص يوم هي أن نبقى أوفياء لماضينا وحاضرنا ولقصص الأمس كجزء من حياتهم لا حياتي فحسب.
وربما الذاكرة لم تخنّي بعد.. فما زلت  أردد القصص البعيدة نفسها لأولاد أخوتي ولابني الذي أنتظر فيه النهج نفسه ولكن بأسلوب مختلف نظرا لاختلاف الحياة إيقاع الحياة وأدواتها.. كبرنا عبر خيوط الزمن ولكننا احتفظنا بطفولتنا بعناية العاشق للشعر وللقصص التي هي وحدها كبرت معنا حتى غدت في دمنا؛ بل وفي ظلّنا، وستبقى تلازمنا نتنفسها دون كلل أو ملل.
ذلك الزمن ظلّ  يرافقني وكان جسر العبور لي نحو المجد، ذلك القلم الذي نمّا في دفاتري وأوراقي، أنفاسي، كل لحظاتي، لم يكّن فارغا  سوى من اللهّو. لم يكن ثمّلا  حينما قرر أن يعيش حياة  النمّل، بحث عن التنظيم في فوضى البشر، ثم أفاق  من غفوته حينما ظن نفسه دوما  على حق! واعترف أنه وقتها كان فاقدا للوعي، وقتها فقط لم تمّر الحياة كقطّار عابر؛ بل كانت مليئة بالمحطات الديناميكية؛ فالبيّت الذي عاش فيه جدّي أصبح في ظل زيتونته، والعلاقة بينهما جميلة جدا كلما تقدّم البيت في العمّر، وكلما كبّرت أكثر واحتضنته أكثر وجدت  قصيدتي الشعّرية الأولى كانت قبل عشرين عاماً مختبئة في زاوية البيت تخاطب الحارات الضيقة التي ترثي حبيبها.
وفيّة حتى في جرحها فقد كانت قصيدة  تحمل طفولة العاشق؛ لذلك البدّر الذي احتضنته النجوم التي كانت على شكل سحابة  عابرة استقرت في قلب مبعثر؛ كانت قصيدة  من الشّوق لفارس  عظيم رحل  باكرا دون وداع؛ لكن حقا  إنها قصيدة نادرة كانت على هيئة قلب  ينبض..وروح تأن..
عشّرون عاما  كفيلة بأن يكون شعري شابا في مقتبل العمرلا يشيّب أبدا ، كلما مرّ الزمن؛ كلما تعافى أكثر؛ كلما كان عصفورا، يُحلّق  أينما يريد، كأنه يفّرد أجنحته على شقّي الابتسامة، كلما كان بيتّا  من العشّق يجمع الأحبة تماما  كالقلب المغلف بالورّد.
لا أطلّق  على نفسّي شاعرا..ىفأنا أكتب، ما أشعر به فقط، ما أعيشّه من الصدق، أترّك  الألقاب  لأهلها وأمضي، ما يهمنّي فقط.. أن أكون إنسّانا.. كلما تقدّمت في العمر.. كلما كبّر  وفائي أكثر
 لم تختزل الطفولة في لون معين، ولم تكّن سوى خربشّات على جدار الثّواني.. تلك الثوانّي من عُمّر  الشوّق كان يلّفت انتباهي مرور الذكريات، وكأنها في طائرة ورقية، في يوم  عاصفّ. "بالون" هيدروجيني كبير؛ يرتفع ويرتفع حتى يختفي.. يرفض فكرة الهبوط، كلما ابتعد كلما تلاشى.. وهكذا الطفولة الشيّقة بعيدة  جدا؛ لكنها تختلف بأنها أقرب من بُعّدها بكثير.. كل شيء هنا باقة من الورد لمن يتابع بصمت. وأنتم مملكة الروح التي لا تموت..

تعليق عبر الفيس بوك