مسرحية قصيرة:

الصعاليك يصطادون النجوم

عبد الرزاق الربيعي – مسقط

 

** المشهد الأول:
شخصيات المسرحية: (مالك بن الريب/ أبو حردبه/ شظاظ/ الأمير سعيد بن عثمان بن عفان: قائد جيش المسلمين لفتح بلاد فارس/ [مساعد 1 ، 2 ، 3: في جيش سعيد]/الأم/الزوجة/ البنت/ الولد/ الأخت: أخت مالك/ مرّة الكاتب: رفيق مالك في رحلة العودة/ التميمي: كذلك/ الأنصاري: قائد فرقة ألقى القبض على مالك ورفيقيه/ الغلام دريد: غلام عند الأنصاري/ مجموعة من الجند
 الزمان: أوائل عصر بني أمية  
المكان: الجزيرة العربية وبلاد فارس
 (صحراء ، يجتمع ثلاثة صعاليك يقطعون الطريق، الثلاثة هم مالك وشظاظ وأبو حردبه)
مالك: هل من خبر ؟
أبو حردبه: لا... لا يوجد شيء
مالك: ولا حتى عابر سبيل أضاع خطاه في هذه المفازة؟
أبو حردبه: وكيف تسّول للمرء نفسه السير في هذا الليل؟
مالك: لقد عرف الناس طريقنا فلم يعد يأمنونه
شظاظ: لم نرَ قافلة منذ أسبوع
مالك: وماذا تحمل القوافل ما دام الجدب مخيما على البلاد
أبو حردبه: الشياهُ السمينة لا يميتها الجوع
شظاظ: الشياهُ الضعيفة فقط يميتها الجوع  
مالك: نعم، فالندبة عندما تظهر تختار المكان الرخو من سطح الجلد  
أبو حردبه: إذن نحن الذين ندفع ثمن الأزمات الكبيرة التي تواجه حياتنا  
مالك: والصغيرة كذلك
شظاظ: هذا في حالة استسلامنا
أبو حردبه: إذن منْ نحن؟
مالك: قُطاع طرق.. لصوص في نظر المجتمع.. ومساكين مستلبين
شظاظ: وما هي وجهة النظر الصحيحة؟
مالك: ربما كلاهما صحيح وكلاهما خاطئ
أبو حردبه: وأيهما ننهج؟
مالك: لاخيار لنا الآن يا أبا حردبه.... لقد اخترنا طريقنا
شظاظ: طريقنا هو الذي اختارنا
مالك: الفرق بينهما شعرة واحدة، ولو تتبعنا الأمر منذ البداية لرأينا هناك نقطة صغيرة وضعنا أقدامنا عليها بلحظة ضعف أو  لامبالاة....... فوصلنا إلى هذه الحالة....إذن نحن الذين اخترنا  الطريق  
أبو حردبه: ولكن كنا شبانا  نزقين
مالك: هذا هو مفترق الطريق
شظاظ: أو بدايته!
أبو حردبه: أو محطة عابرة في طريق طويل
مالك: لا تنظر إليه هكذا
شظاظ: لمَ لا تترك هذه الحياة وترجع إلى زوجتك وطفليك الذين ينتظرونك
مالك: لا تنسَ يا شظاظ إن جنود الوالي مروان بن الحكم يتعقبوننا
شظاظ: إذن نحن لسنا في مفترق الطريق              
مالك: إن مفترق الطريق يعني بالنسبة لي نقطة يقف عندها الإنسان ليختار الطريق المناسب
أبو حردبه: وإذا لم يجده؟
مالك: يحاول أن يخطَّه
شظاظ: والآن ماذا نفعل؟
أبو حردبه: لننمْ فنحن متعبون
مالك: لا.... فربما باغتنا جند مروان بن الحكم
شظاظ: إذن ماذا نفعل الآن؟
مالك: لنفكر في أمر  نقطع به عنق الليل
أبو حردبه: لديّ اقتراح أرجو أن توافقاني عليه
مالك: تكلم وسنرى
أبو حردبه: تعالوا نتحدث بأعجب ما عملنا في سرقاتنا
شظاظ: فكرة رائعة... سنمضي ليلة ممتعة
مالك: بالفعل... ولكن لتبدأ أنت يا أبا حردبه ريثما نتذكر أعمالنا
أبو حردبه: حسنا ...أعجب ما صنعت أنني صحبت جماعة فيها رجل على جمل فأعجبني، فقلت والله لأسرقن جمله، فراقبته حتى نام، فأخذت خطام جمله وهو عليه وعدلت به عن الطريق وصيرته في موضع لا يغاث به المستغيث، فأنخت الجمل، وصرعته، وأوثقت يديه ورجليه، وسقت الجمل إلى مكان بعيد خبأته به، ورجعت إلى الجماعة فوجدتهم يبحثون عن صاحبهم فقلت: مالكم؟ فقالوا: فقدنا صاحبنا فقلت: أنا أعلم الناس بأثره فخرجت بهم أتبع الأثر حتى وقفوا عليه، فقالوا له: مالـَك؟ فقال: لا أدري نعست فانتبهتُ فإذا بخمسين رجلا  قد أخذوني، وقاتلتهم فغلبوني. وعندما سمعت هذا أخذت أضحك من كذبه وعندما ذهبوا عدت إلى الجمل وأخذته مع ما حمل من متاع. والآن أخبراني أنتما؟
مالك: ما زلت أتذكر
أبو حردبه: وأنت يا شظاظ؟
شظاظ: قصّ لنا قصة أخرى ريثما نتذكر
أبو حردبه: ذات يوم مرّ بي رجل ومعه ناقة وجمل وهو على الناقة فقلت لآخذنهما جميعا، فجعلت أعارضه، وحين رأيته نام أخذت الجمل فحلّلته وسقته وخبأته وعندما انتبه الرجل لم ير الجمل، فنزل وعقل راحلته ومضى في طلب الجمل ، فدرت وحلّلت عقال الناقة وسقتها  (يضحكون)
والآن جاء دورك يا شظاظ؟
شظاظ: لا تحضرني غير هذه الحكاية القصيرة... ذات يوم كنت ماشيا في الطريق أبتغي شيئا أسرقه، فما وجدت شيئا  فإذا بشجرةٍ ينام تحتها الركبان بمكان ليس فيه ظلٌ غيرها وإذا أنا برجلٍ يسير على حمار فقلت له: أتسمح، فقال نعم... فقلت إن المكان الذي نقيم فيه يخسف فيه بالدواب فاحذره فلم يلتفت إلى قولي فراقبته حتى نام، فأقبلت على حماره ، فسقته حتى إذا أخذته بعيدا، قطعت طرف ذنبه في الأرض ثم تجاوزته مقدار ما بين ذنبه وأذنيه، ثم غرست أذنيه وأخذت الحمار وخبأته وأبصرت حتى استيقظ من نومه، فقام يطلب الحمار ويقفو أثره، فبينما هو كذلك إذ نظر إلى طرفي أذنيه وذنبه فقال: لعمري لقد حُذرت لو نفعني الحذر واستمر هاربا خوفا من أن يخسف به، وأخذت جميع ما بقي من رحله فحملته على الحمار وأخذته إلى أهلي (يضحكون)
أبو حردبه: لله درُّك من ماكر!
شظاظ: وأنت يا ابن الريب هلا قصصت لنا قصة لطيفة
مالك: ذات ليلة مظلمة غاب القمر عنها جلست أنتظر غنيمة وإذا بشبح يخرج لي وسط الظلام
الاثنان: شبح؟!!
مالك: نعم شبح  
أبو حردبه: وماذا فعلت ... كيف عالجت الموقف؟
مالك: ذهلت بادئ الأمر ثم استجمعت قواي وتحسست سيفي وجردته من غمده فذاب ذهولي فهجمت عليه وطعنت طعنة نجلاء أصابته في صدره
شظاظ: صدر الشبح؟
مالك: لا
أبو حردبه: إذن منْ طعنت؟
مالك: لم يكن شبحا  على الإطلاق وإنما رجل أسود (يضحكون)   
وأذكر إنني قلت فيه شعرا  
شظاظ: ماذا قلت؟
أبو حردبه: أجل اسمعا مما قلت
مالك: لقد قلت:
                    
يا غاسلا تحت الظلام مطية  
                        متخيلا لا بل وغير مخايل   
إني أنخت لشائك أنيابه
                    مستأنس بدجى الظلام منازل  
يقظ الفؤاد إذا القلوب تآنست
                    جزعا  ونبّه كل أروع  باسل  
فوجدته ثبت الجنان مشيعا  
                     بركاب منسج  كل أمر هائل   

أبو حردبه: لا فضّ فوك
شظاظ: أحسنت ... هلا زدتنا؟
مالك: ذات ليلة ظهر لي ذئب وكنت ساعتها نائما  في بعض مغاراتي فزجرته فلم يذهب فوثبت إليه بالسيف فضربته فقتلته
شظاظ: وهل قلت في ذلك شعرا؟
مالك: نعم ، لقد قلت:
أذئب الغضا قد صرتَ  للناس  ضحكة  
                            تفادى بك الركبان شرقا إلى غرب   
فأنت وإن كنت الجريء جنانه
                           منيت بضرغام من الأسد الغلب   
بمن لا ينام الليل إلا وسيفه  
                             رهينة أقــــوام ســـــراع إلى الشِّعبِ
أصول بذي الحدين أمشي عرضه
                              إلى الموت والأقران كالإبل الجرب  
أرى الموت لا أنحاش عنه  تكرّما    
                           ولوشئت لم أركب على المركب الصعب  
أبو حردبه: والله إنك شاعر مجيد
شظاظ: لقد أتلفت شِعرك في الطرقات
 (يدخل المسرح مجموعة من الجند يشهرون سيوفهم في  وجوه الثلاثة يقودهم الأنصاري)
الأنصاري: لا تتحركوا أيها اللصوص ألقوا سيوفكم  
أبوحردبه: وقعنا أخيرا  بأيدي جند الحكم بن مروان
شظاظ: إنها خاتمتنا
الأنصاري: نريد أن نقطع دابركم ونحفظ سلام الناس والطرق.... لقد
كثرت أفعالكم القبيحة وجئنا بأمر الحارث بن حاطب الجمحي وسنقودكم إلى الوالي (إلى الجند) هيا معي لنأخذ هذين اللصين (يشير إلى أبي حردبه وشظاظ) أما هذا اللص (يشير إلى مالك) فسأتركه في عهدتك يا غلامي العزيز "دريد" وسأترك معك مجموعة من الجند على أن تلحقوا بنا قبيل الفجر.... خذ حذرك يا دريد فمالك محتال
دريد: كن مطمئن البال يا سيدي
الأنصاري: في أمان الله
دريد: في أمان الله وحفظه (يذهبون ...
ويلتفت إلى مالك: إياك أن تفكر في شيء فمعي رجال لا يرحمون
مالك: لاتخف مني فأنا مقيد
دريد: إنني أحذرك فقط لا خائف منك كما تعتقد
مالك: اطمئن ولكن هل لي أن أسألك سؤالا  
دريد: ماذا تريد؟ قل؟
مالك: لِمَ لَمْ  يأخذني مولاك مع رفيقيّ
دريد: لاشأن لك بهذا، إنه أمر يخصنا  
مالك: أعتقد أنكم تخافون أن تدخل لنا جماعة، فنقوى ، فننقض  عليكم  
دريد: اخرس أيها الدنيء إننا لا نخاف الجبناء الذين يحتمون بستار الليل......
مالك: الجبناء لا يحتمون بستار الليل... الجبناء يحتمون بسيوف غيرهم  
دريد: كفى أيها الوغد ..سترى نهايتك فجر اليوم
مالك: (مع نفسه) ربما سترى نهايتك قبلي  (صمت)
جندي: لقد تعبنا سيدي هل لنا أن نأخذ قسطا  من الراحة
دريد: وأنا أيضا  تعبت ..لقد أمضينا وقتا  طويلا  في تعقب هؤلاء اللصوص
جندي: إذن علينا أن ننم قليلا  
دريد: سننام نحن... أما أنت أيها الجندي الشجاع فأبق مع هذا السجين وتناوب الحراسة مع البقية
الجندي: ولكنني ....
دريد: كفى هذا أمر (يذهب)
مالك: (للجندي) هل لي بشربة ماء
الجندي: (يسقيه) خذ  فالرسول أوصى بالأسير (يشرب مالك)
مالك: شكرا  أيها الأخ.. لابد أنك متعب
الجندي: لا شأن لك بي  
مالك: نَمْ  فسأحرسك أنا  
الجندي: (يضحك ساخرا) ما هذا الكلام الجميل؟
مالك: اطمئن فأنا شهم.. ولاتنس أنني مقيد
الجندي: كفى تريد أن أنام فتهرب فأسجن بذلك
مالك: أنت حُرٌّ في ما تفعل  
الجندي: بالطبع  
مالك: أتريد الحق.. بالنسبة لي الآن أنت السجين وأنا الحر.. أنا مطمئن على حالي فيما أنت قلق على وجودي
الجندي: (ساخرا) الآن فقط أما الغد.....!؟
مالك: دعه للغد (تقترب أفعى من الجندي) احذر أفعى سامة
 (الجندي يسرع فيقتلها)
الجندي: شكرا  لك أيها الأخ... لقد أنقذت حياتي
مالك: لا شكر على واجب
الجندي: ما أبشعها من أفعى.. لو لدغتني لأصبحت الآن بحجم الناقة إنني ممتن لك يا صديقي... هل تريد مني خدمة؟
مالك: لا ولكن لابأس أن ترخي حبل قيدي قليلا  لأنه سيقطع معصمي  
الجندي: حسنا  
 (يحاول أن يرخي القيد... ينقض مالك عليه... يسقط الجندي.. يأخذ سيفه... ينهض الجندي.. يقاتلهم... يقتل دريداً... يهرب الباقون)
مالك: لقد عادت حريتي لي سألحق بصاحبي  وأهرب بعيدا  عن هذه الأرض.
(يطفأ الضوء)
************

** المشهد الثاني:
{خيمة تجلس داخلها أم مالك تتشح بالسواد}
أم مالك: هكذا هم دائما ينبتون في أحشائنا كنباتات الصحاري، ثم يغادرون أرحامنا، يشبون في أحضاننا... يرضعون دمنا ويمتصون أرواحنا... ترقص النجوم إذا ابتسموا وتخضّر المروج إذا ضحكوا... حتى إذا ما كبروا لفظتهم الدروب وغابوا في عتمات المساء... هكذا هم دائما... هنا كان مالك يجلس... وهناك كان يراقب النجوم... عندما كان صغيرا كان يغافل أباه حتى إذا ما نام كان يسرق سيفه ويمضي خارج الخيمة يلعب به، ومرة  قطع أحد أوتاد الخيمة، ومرة جرح يده ومرة... ومرة حتى اشترينا له سيفا ومنذ ذلك اليوم أخذ يغيب طويلا عن البيت...
(أصوات إبل في الخارج)  
(تدخل أخت مالك)
الأخت: السلام عليكم
أم مالك: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.. ماذا فعلت يا ابنتي؟
الأخت: أطعمت الماشية وحلبتها  
أم مالك: وكيف كان درها؟
الأخت : ما زال قليلا... لا تنسي أنها لم تأكل كفاية
الأم: ومن أين نأتي بما يملأ بطنها إذا كان الجفاف نشر ظله على البلاد؟
الأخت: أماه... لم أرك حزينة إلى هذا الحد  
الأم: إنه الغروب... ما أن يخيم على الدنيا حتى يفتح دهاليز الذاكرة
الأخت: وماذا عثرت فيها اليوم؟
الأم: مثل كل يوم... صورة مالك... إنها مطبوعة على جدار قلبي
الأخت: صبرا يا أماه...
الأم: سنة مرَّت دون أن نسمع بخبر عنه.. ماذا ترين؟
الأخت: أخشى أن يكون قد وقع بأيدي الجند مرة أخرى
الأم: لا فقلبي مطمئن
الأخت: من أين تأتي الطمأنينة؟
الأم: إن قلبي يقول: إنه سيعود لنا  
الأخت: كيف والجند يتربصون به ويتعقبون آثاره
الأم: وما هذا كله؟
الأخت: هل نسيت أنه قتل دريد غلام الأنصاري، وجرح بضعة جنود، وهرب من الأسر، وأطلق سراح رفيقيه: شظاظ وأبي حردبة. إن أمرا واحدا من هذه الأمور يفعله الإنسان يكفي للحكم عليه بالسجن لعدد من السنين فكيف وهو ارتكبها كلها؟
الأم: أعوذ بالله من هذا الكلام.. ما هذا يا ابنتي
الأخت: إنها الحقيقة يا أمي
الأم: أيَّةُ حقيقة هذه التي تحكم على فلذة كبدي بالموت؟
الأخت: لقد حكم على نفسه بالموت منذ زمن طويل
الأم: القحط هو الذي حكم عليه لا هو  
الأخت: إنه في رحيل مستمر  والفراق نصف موت
الأم: لك الحق في هذا.... هل تذكرين عندما كان يعود من الرعي في وادي الغضا؟ كيف كان يملأ الدار ضحكا وغناء... يرقص.. يحكي لنا عن الوادي والعشب والأرض والناس... إيهِ أيها الزمن القاتل ماذا فعلت بنا؟
الأخت: كان يحلم بالصغار الذين يملأون البيت ... يا ترى أين يعيش الآن؟ أما زال في البحرين؟
الأم: سيعود قريبا مع زوجته وولديه.. إنهم يعيشون الآن في سعادة... قلبي يقول ذلك  
(يطفأ الضوء)
************

** المشهد الثالث:
{صحراء... مالك، شظاظ، أبا حردبة}
 مالك: ها نحن نضيع في هذه المفازة اللامتناهية
أبو حردبة: جفاف.. كل ما حولنا ميت بينما يسبح الآخرون في النعيم
مالك: كل النعيم بالنسبة لي الآن أن أجلس على ركبتي أمي
شظاظ: بدأتما تذبلان... تجفان... تموتان كنبتتين مزروعتين في صحراء
أبو حردبة: إننا الآن بلا جذور    
شظاظ: لقد رفضنا أن نمد جذورنا على أرض يعيش بها سادة وعبيد
مالك: لِمَ نَبقَ بها لننتصر للعبيد؟
شظاظ: ماذا نفعل لأناس يعبدون عبوديتهم؟
أبو حردبة: نحدثهم عن الحرية !
شظاظ: سنغتال طمأنينتهم!
مالك: الطمأنينة موت غير معلن
شظاظ: تفكيرك بالأهل، ألا يعتبر بحثًا عن الطمأنينة
مالك: هذا موضوع آخر.. إنه امتزاج كامل بوجودك السلفي بينما ذاك هروب من مواجهة الأشياء
أبو حردبة: لقد رفضنا المجتمع لأننا نجابهه... نريد أن نقاوم اختلال الموازين
شظاظ: نحن الذين رفضنا المجتمع لا هو
مالك: كلانا رفض الآخر
شظاظ: إنكما تذبلان تجفان تموتان وأنا لا أطيق العيش مع شيء يموت  
مالك: إننا نقف في مفترق الطرق
أبو حردبة: ربما نبدأ من جديد
شظاظ: وربما تنتهيان نهاية سيئة
مالك: كل الأشياء تنتهي
شظاظ: النهايات تختلف
أبو حردبة: إننا نعيش أسوأ نهاية فلنجرب نهاية أخرى لنا أخف من هذه
شظاظ: وماذا ستفعلان الآن؟
أبو حردبة: سأعود إلى المدينة تائبا عسى أن تُقبل توبتي
مالك: أما أنا فسأبقى في بلاد فارس فقد سمعت أنّ الأمير سعيد بن عثمان بن عفان سيمر منها
شظاظ: إنكما تجفان تموتان كنبتتين مزروعتين في صحراء قاحلة
مالك: وأنت يا شظاظ؟
شظاظ: سأبقى أزرع الرعب والدمار في قلب الليالي ... سأقلق النجوم وأبقى في حرب مع الوجود  
(يطفأ النور)
************

** المشهد الرابع:
{الأمير سعيد بن عثمان بن عفان مع جنده }
سعيد: إنه مكان جيد للاستراحة... لنأخذ قسطا من الراحة فيه فالطريق طويل وعلينا أن لا نبدد قوانا فماذا تقولون؟
مساعد 1: نعم الرأي يا مولاي  
مساعد 2: مكان مريح بالفعل
سعيد: إذن خبر الجند أننا سنقيم الليلة هنا... وزِّعْ عليهم أدوار الحراسة
مساعد 1: أمر مولانا الأمير(يذهب مع جنديين)
سعيد: يجب علينا أن نصل خراسان بأقرب وقت
مساعد 3: نعم وعلينا أن نباغت الأعداء قبل أن يحشّد جنده لملاقاتنا
سعيد: إن الموقف دقيق وحساس ويحتاج إلى الصبر والتأني
مساعد 3: لا تتعب نفسك بالتفكير فجندنا أقوياء بقوة الحق والإيمان والخليفة معاوية بن أبي سفيان أمدنا بجيش جرار ضارب
سعيد: الحمد لله (تسمع أصوات من الخارج)
ما هذه الضوضاء (يدخل الحارس)
الحارس: مولاي الأمير لقد أمسكنا أحد المارقين رأيناه يدور حول خيام الجند... قبضنا عليه لابد أنه جاسوس خطير
سعيد: حسنا أحضروه
 (يدخل مالك بثياب أنيقة)
مالك: السلام عليك مولاي الأمير
سعيد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..من  أنت؟ وماذا تفعل؟
مالك: أنا مالك بن الريب
سعيد: من ْ ؟ اللص القاتل... لعنك الله...أنت الذي قتلت دريداً وهربت من الأسر... وسلبت وقتلت وفعلت كل الأعمال  القبيحة
مالك: نعم يا مولاي أنا هو!  
سعيد: وتعترف بذلك!
مالك: نعم فالاعتراف فضيلة وأنا من أهل الفضل  
سعيد: قبحك الله.. كيف تدعي الفضيلة وأنت تسلب الناس أموالهم  
مالك: لقد سُلبت فسَلبت
سعيد: ماذا تقول؟
مالك: لقد سلبني غيرهم لقمة أولادي فسلبتها منهم  
سعيد: ولكنك لا تسلب من سلبك؟
مالك: الكل مسؤول عن عوز البعض وأنا أحاكم من لا يسلبني لأن الذي سلبني قوي... الضعفاء وحدهم يتحملون مسؤولية قوة القوي لأنهم بنوها بضعفهم فوقعت ضحيتها فلهذا أسلبهم
سعيد:إنك والله لرجل عجيب غريب الأطوار... إن لك قلبا جريئاً ولسانا  فصيحا  وعقلا منيرا وهيئة رجل كريم لا لص  
مالك: أشكر مولاي الأمير على هذا الإطراء
سعيد: ولكن قل لي ما دمت تملك كل هذه الصفات الحميدة فلماذا تفسد نفسك بقطع الطريق وما يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العبث والفساد وفيك هذا الفضل؟
مالك: يدعوني إليه العجز عن المعالي ومساواة ذوي المروءات ومكافأة والأخوان
سعيد: فإن أنا أغنيتك واستصحبتك لتكف عما كنت عليه؟
مالك: أي والله مولاي الأمير أكف كفا  لم يكف أحد أحسن منه  
سعيد: تب إلى الله فعسى أن يغفر لك
مالك: لقد تبت بين يديك يا مولاي  
سعيد: بارك الله بك... إذن أيها الكاتب أكتب طلبا إلى الوالي مروان بن الحكم بالعفو عن مالك وأصدر أمرا بتعيينه جنديا في جيشي وأجر له مرتباً شهريا قدره خمسمائة درهم (يتجه إلى مالك) أما أنت يا مالك فكن جليسي وأنيسي فإن نفسي تهفو لمجالسة الكرام الشجعان أمثالك
مالك: شكرا يا مولاي الأمير على هذا الكرم... سأذكر هذا ما حييت والآن اسمح لي بالذهاب إلى بيتي لأودع زوجتي وولدي وأهيئ نفسي للرحيل في أمان الله
سعيد: في أمان الله وحفظه
(يطفأ النور)
************

** المشهد الخامس:
{زوجة مالك وابنته وولده}
الولد: أماه متى يعود أبي؟
الزوجة : قريبا إن شاء الله
الولد: هل مضى يصطاد النجوم مثلما يفعل كل ليلة... ثم يبيعها في السوق ليشتري لنا الطعام الذي يعود به محملا في آخر المساء؟
الزوجة: نعم يا ولدي نعم... إنه يصطاد النجوم
الولد: ولم  لا يبقي لي نجمة واحدة مما يصطاد؟
الزوجة: النجمة غالية يا ولدي وبها يشتري خبزا كثيرا  
الولد: لا أريد خبزا... أريد نجمة
الزوجة: ستموت من الجوع إن لم تأكل خبزا  
الولد: إذا جعت سأبيع النجمة وأشتري خبزا  
الزوجة: إنك لا تعرف كيف تباع النجوم
الولد: ومتى أتعلم؟
الزوجة: عندما تكبر  
الولد: ومتى أكبر؟
الزوجة: ألا تكف عن هذه الأسئلة المزعجة... اذهب إلى فراشك
البنت: ماما... هل حقا  يصطاد أبي النجوم ؟
الزوجة: لماذا هذا السؤال؟
البنت: أنا لا أصدق هذا... إن النجوم لا تصطاد  
الزوجة: لماذا يا ابنتي "شهلة"
البنت: لأنها بعيدة وعالية ولا نصل لها حتى لو صعدنا فوق ظهر الناقة.. وفوق هذا يقال أنها حارة وتحرق يد من يصطادها
الزوجة: لا ... لا  إنها باردة
البنت: إذا كانت باردة فسترتجف في الليل شتاءً...إنها حارة لا تهتم للبرد
الزوجة: ومن أين أتيت بهذا الكلام... اذهبي ونامي
أين أنت الآن يا صائد النجوم... ترى هل صادتك نجمة وأخذتك إلى الأعالي
(تأخذ طفليها إلى الفراش... تنيمهما وقبل أن تخلد هي إلى النوم يدخل مالك)
مالك: أبشري يا زوجتي... لقد قابلته
الزوجة: ما الذي جرى لك؟
مالك: لقد قابلت الأمير سعيد بن عثمان بن عفان
الزوجة: إذن قبض عليك الجند؟
مالك: اطمئني... لقد عفا عني وسيصبح بإمكاني زيارة أهلي
الزوجة: هل تعني أننا سنعود إلى ديارنا؟
مالك: نعم.... ولكن
الزوجة: ولكن ماذا؟
مالك: ليس الآن
الزوجة: إذن متى؟
مالك: عندما أعود من القتال
الزوجة: أي قتال؟
مالك: آه... نسيت أن أخبرك أنني أصبحت جنديا في جيشه وسأذهب معه إلى خراسان
الزوجة: إذن ستفارقنا مرة أخرى؟
مالك: نعم يا زوجتي الحبيبة  
الزوجة: ونحن .... من لنا؟
مالك: سأعود قريبا.. كما أن الأمير منحني راتبا شهريا قدره خمسمائة درهم سنعتاش منه
الزوجة: إذن عزمت على الرحيل
مالك: إنها بضعة شهور وينتهي كل شيء... سأبدأ من جديد ولكن أكثر ما يحزنني أنني سأذهب دون أن أودع أهلي ... والآن هيئي زادي وأيقظي ولدي وابنتي لأودعهما  
(يوقظانهما)
البنت: أبي الحبيب
الولد: أبي العزيز
مالك: أهلا ولدي
الولد: هل أحضرت لي نجمة ؟
مالك: لا... لأنني لم أصطد هذه الليلة
البنت: إذن ستعود إلى الصيد مرة أخرى هذه الليلة؟
مالك: نعم يا ابنتي...
الولد: أبي ابق معنا... ولا أريد نجمة ...إنني أكره النجوم.. إنها بيضاء ورديئة وتنزلق من اليد... ابق معنا
مالك: لن أذهب للصيد بعد اليوم... سأسافر طويلا وأعود لكم قريبا
البنت: ماذا يا أبي؟
مالك: نعم... عندما أعود سنذهب إلى أهلنا في وادي الغضا
الولد: أخشى أن تطول سفرتك
مالك: دع يا ولدي عنك هذا الوسواس وقل لي  .. ماذا تريد أن أحضر لك من سفرتي ؟
الولد: لا شيء... لا أريد حتى النجوم ... أريدك أنت يا أبي
 (مالك يضمه إلى صدره بينما تنزوي البنت حزينة)
مالك: وأنت .. ماذا تريدين ؟ عطرا ؟ إن البنات الجميلات يحببن العطور والأمشاط والبخور ... سأملأ جيوبي بها
البنت: لا أريدها  
مالك:  إذن ماذا تريدين ؟ نجمة ؟
البنت: أريد شيئا  واحدا  
مالك: وما هو ؟ قولي أي شيء فأنا سآتي بكل ما تريدين
البنت: أريدك أن لا تسافر  
مالك: لماذا ؟
البنت: أخاف أن لا تعود  
مالك: وما هذا الكلام ؟  
 (تدخل الزوجة)
الزوجة: أرى خطاك تذهب وتغيب وتغوص في الرمل ولا أرى أثرا  لخطاك قادمة
مالك: إنكم تهدّون قواي بهذا الكلام ... ما هذا الهراء ؟ ألم يسافر أحد قبلي .. لقد عزمت على الرحيل ولن أغير رأيي ...بنت عاقة تريدني أن أجلس قربها أمام الموقد أخيط فتوق الثياب وأغزل بالمغازل  
 (تبكي ... يضمها إلى صدره وينشد:)
                    
أسكتي لقدحززت بالدمع قلبي     
                                 طالما حزدمعكن القلوبا
أنا في قبضة الإله إذا  كنت    
                                بعيدا أوكنـت منك قريبا
(يطفأ النور)
************

** المشهد السادس:
{الأمير سعيد ... المساعدون ... مالك}
سعيد: سأري سمرقند من تكون  
مساعد 1: سنفتحها عاجلا إن شاء الله
مساعد 2: إنها مدينة صغيرة ليس إلا !
سعيد: لا... فتحنا لسمرقند ليس بالأمر السهل فجيشها قوي وهي محصنة... إن الأمر يحتاج إلى التروي والتفكير لا إلى الاستهانة...
مساعد 2: عفو مولاي الأمير
سعيد: لا عليك... إنني أشعر بالضمأ ... أيها الغلام ..أرسل بطلب صاحب الإبل ليحلب لنا ضروع ناقته
الغلام: ولكن صاحب الإبل يا مولاي غير موجود .. لقد أرسلته قبل قليل لحاجة يقضيها  
سعيد: إذن من سيحلب لنا الناقة؟
مالك: ليسمح لي مولاي أن أقوم بهذا العمل  
سعيد: أنت؟  
مالك: نعم... لقد كنت راعيا وطالما حلبت النوق
سعيد: حسنا... أيها الغلام ... أوصل مالك إلى الناقة  
 (يخرج مالك)  
كيف حال جنودنا؟
مساعد1 : مولاي الأمير.. إنهم على أتم الاستعداد للقتال  
مساعد2: لياقتهم عالية وإيمانهم بالله كبير
مساعد3: إنهم ينتظرون إشارة منك لبدء القتال
سعيد: الحمد لله  
مساعد1: ولكن متى نبدأ الهجوم؟
سعيد: إذا أسفر الصبح عن جو  مناسب فسنهجم إن شاء الله
مساعد2: أرى أن ينتهز الجيش ظلام الليل فيهجم ويتخذ مواقعه فيباغت العدو
سعيد: وإذا ساءت الأحوال الجوية ونحن قوم جئنا من الصحراء ولا نعرف بطبيعة مناخ هذه البلاد؟
مساعد3: لقد أقمنا أسبوعا في هذا المكان وقد اعتدنا على تقلباته
(يدخل مالك مع الغلام الذي يحمل دورق اللبن)
سعيد: جاء اللبن... (يشرب) ما هذا إنه أطيب لبن شربته منذ زمن... كيف حصلت على هذا اللبن يا مالك؟
الغلام: مولاي الأمير  لقد مسحها بيده حتى درت... ثم حلبها فإذا هو أحسن حلب حلبه الناس  
مالك: ألم أقل لك يا مولاي أنني راع إبل
سعيد: هل لك أن تقوم بأمر إبلي فأجزل لك الرزق إلى ما أرزقك ..... وأضع عنك الغزو  
(مالك يصمت وكأن طلب الأمير أزعجه ... ينشد قائلا:)
وإني لأستحيي إذا الحرب شمرت****وأرضى بدون الحرب ثوب المسالم            
وما أنا بالنـائي الحفيظـة بالـــوغى****ولا المتقــي في السلم جر الحــرائم  
ولكنني مستوحـــد العــــزم مقـــدم****علــى غمــرات الحـارث المتفاقـــم  
سعيد: إنك والله لست بصاحب إبل ... إنك صاحب حرب
(يطفأ النور)
************

** المشهد السابع:
{الأم .... الأخت .... طرقات على الباب }
الأم: من بالخارج؟
صوت: أنا أبو حردبة
الأم: تفضل... أهلا وسهلا بك
(تفتح الأخت الباب ... يدخل أبو حردبة)
أبو حردبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأم: وعليك السلام ... كيف حالك؟
أبو حردبة: الحمد لله على نعمته  
الأخت: ما أخبارك؟  
أبو حردبة: لقد أتيت لكما بخبر جليل عن مالك
الأم: وما هو بالله عليك تكلم  
أبو حردبة: لقد انتصر جيش الأمير سعيد في معركته ودخل سمرقند فاتحا  
الأم: الحمد لله.... الحمد لله .. وماذا عن مالك؟
أبو حردبة: سمعت أنه أبلى بلاءً حسنا  وقاتل بشجاعة فائقة... سادت أنباؤها على كل لسان  
الأم: ولدي الحبيب... ها أنت تعود من جديد إلى الأمجاد بعد سني العذاب والتشرد
الأخت: وهل يعود لنا بعد انتهاء فتح خراسان
أبو حردبة: نعم فعلى عهدي كان به شوقا  لكم  
الأم: ليس بأكبر من شوقنا له ... وأنت يا أبا حردبة كيف تسير الأمور معك ؟
أبو حردبة: الحمد لله... لقد تبت وصرت أصلي الليل والنهار عسى أن يقبل الله توبتي وأنا الآن أعد نفسي مع جيش المسلمين في غزوة جديدة لبلاد فارس  
الأم : بارك الله فيك وجزاك خير جزاء ... وما أخبار شظاظ ؟
أبو حردبة: ما يزال تائها  في الصحراء
الأم: هداه الله ... ما الذي يبغيه ؟
أبو حردبة: إنه يبحث عن ذاته وسط الظلمة... إنه يبحث عن مفترق الطرق
(يطفأ النور)
************

** المشهد الثامن:
 {صحراء... رجلان يحيطان بمالك وهو في النزع الأخير... الرجلان هم مره الكاتب ورجل من بني تميم... صوت عاصفة}
  مالك: إنها النهاية يا صاحبي  
مره: لا تقل هذا يا ابن الريب... إنها ليست سوى حمى عارضة ستزول وتنهض لتكمل سلسلة انتصاراتنا فالبلاد على وشك أن تفتح  
مالك: الحمد لله... والأمير سعيد بن عثمان
التميمي: لقد ذهب على رأس الجيش في معركة جديدة
مالك: أما أنا فهنا على فراش الموت ... أئن مثل طلل قديم
التميمي: أعوذ بالله من هذا الوسواس
مالك: لا... إنني أرى شبح الموت يشهر أنيابه الحادة بوجهي... ها هو يلقي بكلكله على صدري ويهشم عظامي... يلم خيوط الحياة من أقصى خلية في جسدي ويجمعها قرب سرتي ككرة صغيرة يقتلعها كما يقتلع مسمارا دق في خشب عتيق... آه لو أنني سقطت من بطن أمي أثناء جريها وراء النوق... يومها كنت بحجم أرنب صغير... لو سقطت حينئذ لدفنوني في حفرة صغيرة كما يدفنون وتدا لخيامهم كنت بلا ملامح  ولا عظام ولا ذاكرة... لو أنني لم أخلق على الإطلاق... لومت  في إحدى طرق الليل عندما كنت لصا  قاتلا  أزرع القلق والرعب في قلوب الليالي الكالحة السواد أسلب وأقتل من أجل بضعة دراهم تفوح منها رائحة الروث والجحيم أسد بها فما جائعا ... آه من ينقذني سعير الذاكرة
مره: أرح نفسك وكف عن هذا الكلام... إنك والله تقطع به نياط قلبي وترميني في متاهات العدم
مالك: لماذا أوجدتني يا رب؟ لماذا تخلقنا مادمت سترسل هذا الذي يربض على صدري... لماذا تنفخ الحياة في أجسادنا ثم ترسل صاعقة لتطفئها وتتركنا فريسة للديدان الجائعة؟... لماذا ولدت إذن؟ أمن أجل حفنة من السنين أمضيها في التشرد والترحال... إنني أرى وجودي ليس سوى خط  متعرج يمتد بين نقطتي ولادتي وموتي وما بينهما حشد من الصور أراها الآن كما يرى النائم المستلقي على بساط من الإبر... إنها تأخذ الآن شكل أخطبوط يلتف على عنقي ويمطرني بالأسئلة الصامتة.. إلى أين سأمضي؟... ما شكل أسنان الديدان التي ستنخر عظم جمجمتي؟ وما نوع تلك التي ستلتهم قلبي؟ وتمضغ دمه المتجمد البارد كما تمضغ قطعة حلوى ...وكيف سأنام تحت ذراع من الرمل والحجارة الثقيلة؟ ... ذراع يفصلني عن الضوء والنجوم... إنني أرى دموع أهلي تسير معي على منحدر عال... إنني أرى النوق تتلفت باحثة عن خطاي...أرى نجمة عالية تحترق لم أصطدها ... جدارا يهوي... خلية في الجسد البشري تذبل... شيئا  على صدري انتهى من جمع أكثر من نصف خيوط حياتي... يا لهذه الليلة التي جمد الزمن بها متى ستنتهي؟  
 (تصيبه نوبة إغماء)
التميمي: ها هي نوبة الإغماء تعاوده من جديد  
مره: منذ ثلاث ليال ونحن على هذه الحال... شبحان ساهران في صحراء قاحلة وهيكل يئن ويهذي
التميمي: ما اعجب أمر هذا المرض اللعين المجهول... لقد هد  قوى الرجل بسرعة عجيبة  
مره: ولكن هل يا ترى أن هناك أمل في شفائه؟
التميمي: إن الأمر أصبح بيد الله.... ما أطول هذه الليلة؟ إني أحس بتعب شديد يثقل عظامي.. إنها ثلاث ليال من السهر والخوف
مره: لننم ساعة ونستفيق بعدها  
(ينامان)  
 (يستيقظ مالك)
مالك: لقد نام رفيقاي... إنهما آخر من بقي معي من الناس الذين مروا في حياتي وسوف لن أرى سواهما من البشر إلى يوم الحساب... إنهما الآن دليل قاطع على وجود الحياة.. بل إن الحياة نفسها تتجسد فيهما... عندما كانا مستيقضان كانت الحياة أكثر قرباً مني أما الآن فقد أصبحت بعيدة جدا... لم يعد في هذا المكان حياة... الحياة بالنسبة لي ليست سوى صوت نبضات قلبي وصوت الشخير الضعيف الذي أسمعه من رفيقي  رحلتي... وهذا الضوء الذي تجود به النجمات وشجرة الصبار التي تصارع الموت مثلي وما سوى هذه الأشياء فليس هناك حياة... لا أهل... لا وادي الغضا... لا أم...لا أولاد...إيه يا شيطان الشعر هلم إلي فهذا آخر عهد لي معك  
 (يسند رأسه للوراء يتأمل الأفق تظهر على مؤخرة المسرح "سلايدات" يمثل أطفالا ونوقا ...ينطلق صوت من خارج المسرح)
الصوت: ألا ليت شعري ...  
                      ألا ليت شعري ...
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي الغضا ....
ألا  ليت    شعري  هل   أبيتن   ليلة  
                   بوادي الغضاأزجي القلاص النواجيا  
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه  
                     وليت الغضـا ماشى الركاب لياليا  
لقد كنت في وادي الغضا لودنا الغضا  
                           مزاراً ولكن الغضا ليس دانيا  
 
(مرة ينهض مذعورا)  
مرة: انهض يا رجل إن مالك يهذي
التميمي: لم ننم غير دقائق... ماذا حصل؟ مالك كيف حالك؟  
 (لا يجيب)
مره: يبدو انه اشتد عليه الألم
التميمي: إن على وجهه تبدو انفعالات غريبة
مره: نعم... يبدو أن مالكا الآن في حضرة شيطان الشعر
التميمي: ماذا تقول؟ أتعني أنه الآن ينشد الشعر؟
مره: نعم إنها علامات قول الشعر... إن شيطان الشعر داهمه الآن
التميمي: وماذا تراه يقول الآن؟
مره : لابد أنه يوصي  
التميمي : لنسمع ما يقول  
 (مالك يشير أن اكتبا عني ...يحضران ورقا وقلما)
مالك:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة  
                      بوادي الغضا أزجي القلاص النواجيا
 فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه  
                         وليت الغضا ماشى الركاب لياليا
لقد كنت في وادي الغضا لودنا الغضا  
                        مزاراً ولكن الغضا ليس دانيا       
   ألم ترني بعت الضلالة بالهدى  
                     وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
فلله دري يوم   اترك  طائعا
                           بنيي بأعــــــلى الرقمتين وماليا
 ودر كبيري  اللذين  كلاهما   
                               علي  شفيق ناصح لو نهانيا
 ودر الظباء    السائحات عشية  
                              يخبرن  أني هالك من ورائيا
 تذكرت من يبكي علي  فلم أجد  
                         سوى السيف والرمح الرديني باكيا
وأشقر خنذيد   يجر   عنانه  
                          إلى الماء لم يترك له الدهر ساقيا
مره: إنه لا يوصي ... إنه ينشد مرثية
التميمي: مرثية ؟
مره: نعم مرثية
التميمي: ولكن يرثي من؟
مره : إنه يرثي نفسه
التميمي: أصمت ها هو يواصل الإنشاد.. أكتب
مالك:
ولما  تدانت عند   مرو     منيتي  
                              وحم لها جسمي وحانت وفاتيا
أقول لأصحابي   ارفعوني فإنني  
                                يطيب لعيني أن سهيل بدا ليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا  
                                برابية إني مقيــــــم  لياليـــــا
التميمي: دنا الموت.... إنه يوصي  
مالك: أقيما علي  اليوم أو بعض ليلة   
                                  ولا تجعلاني قد تبين ما بيا  
وقوما إذا ما استل روحي  فهيئا   
                                لي السدر والأكفان ثم ابكيانيا  
وخطا بأطراف الأسنـّة مضجعي   
                               وردا على عيني  فضل ردائيا  
خذاني فجراني   ببردي إليكما   
                               فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا  

(مالك يسكت)
التميمي: هل انتهى؟
مره: لا انتظر.. إنه ينظر إلى الأفق  البعيد
مالك: (يستمر)  
                      
وفي الرمل منا نسوة لو شهدنني   
                                   بكين وفدينا الطبيب المداويا
فمنهن  أمي وابنتاها وخالتي  
                                وباكية أخرى   تهيج    البواكيا  
 (أصوات نساء تبكي... أنين... صوت عاصفة... تتداخل الأصوات مع بعضها)
مره: لقد عرفت الآن داء الرجل
التميمي: ما هو؟
مره : لنعد به على بلاده وسترى كيف ستعود له الحياة  
 (يحملانه ... يسيران ... تكف أصوات البكاء ... تشتد الإضاءة ... ينطلق صوت ناي)
    
يسدل الستار

تعليق عبر الفيس بوك