محمد رضا اللواتي
تحوز السلطنة، عبر سنوات، بشهرة لا نظير لها، بصفتها بلدَ الوئام والسلام والتسامح من الدرجة الأولى؛ فلقد تناول الإعلام الإقليمي والعالمي هذه الظاهرة وكتب عنها، وما أكثر ما تتناوله، بين الفينة والأخرى، وسائل التواصل الاجتماعي، من صور لذوي عدة مذاهب متنوعة مختلفة في السلطنة، يقيم أصحابها الصلاة جماعة، أو اجتمعوا في عرس مشترك، وما أشبهها من صور علق عليها متداولوها كلمات مضمونها واحد؛ يمكن إيجازه في "لا يكون هذا إلا في عُمان"!
وبالطبع؛ لا يخفى ما أضفته على هذه الشهرة مواقفها السياسية، من رفض الاصطفاف الطائفي، أو الانخراط في الحروب بالوكالة، وأدوارها في فض أعتى الخصومات دبلوماسيا.
إلا أن مجموعة من التغريدات، مؤخرا، حاولت وصف السلطنة ببلد "قبلي عتيد" و"مغلق" لا يقبل الانفتاح، وأحدها جلبت شاهدا من كتاب لكارل بوبر "المجتمع المفتوح وأعداؤه"؛ يصف فيه المجتمعات المغلقة بأنها "قبلية للغاية، لا يربطها رابط إلا بأرضها ونسبها فحسب"؛ ليقول صاحب التغريدة: "هذه عُمان"!
من الإنصاف أن نشكر صاحب التغريدة الذي كانت تغريدته سببا في مطالعة ممتعة لكتاب "بوبر" ذاك، والذي يعود تأليفه للعام 1945؛ حيث أجواء الحرب العالمية كانت تخيم عليه، وكان قد أراد به أن يدخل في معترك صراع مرير مع "الماركسية".
ولكن، وبعد الانتهاء من السباحة في جانبه الذي يتحدث عن سمات المجتمعات المفتوحة، وكذلك بالعودة إلى شرح رائع له بعنوان "من الإبستمولوجيا إلى المجتمع: مفهوم التاريخانية والمجتمع المفتوح عند كارل بوبر" لمؤلفه يوسف البجيرمي، وأيضا بالعودة إلى كتاب "السمات العامة للمجتمع التقليدي القبلي العربي" للباحث السوري نبيل علي صالح، اتضح أمرٌ يبدو أنه خفي تماما على صاحب التغريدة، وهو أن مواصفات المجتمع القبلي المغلق لا تنطبق على السلطنة بتاتا.
وفي الواقع؛ فالأمر على عكس ما صوَّرته لنا التغريدة؛ إذ إن سماتا من قبيل "سرعة التواؤم مع المجتمعات ذات ثقافات متنوعة"، و"السعي باستمرار نحو التغيير والارتقاء بمستوى الفرد الاجتماعي"، و"الخلو من المحرمات الصارمة في تمام مناحي الحياة التي تمنع المجتمع من ممارسة حق قبول الفكر المختلف والتعامل مع أصحابه"، و"لا توجد فيه قوانين تحاسبه على تبنيه للاهتمامات المشتركة، وإقامة علاقات ثابتة في إطار تبادل المعارف والمصالح"، هذه السمات كلها أتت لصالح المجتمع العماني وتطابقت معه لا أنه فاقد لها!
ليت التغريدة تلك مرت قُرب صحار مثلا، لوجدت أن تاريخ ازدهارها يرجع إلى الألف الرابعة قبل الميلاد! (انظر: ملامح من تاريخ عمان، ص:7، لمؤلفه مال الله بن حبيب اللواتي).
وتقول الوثائق إن الفاتح الكبير "كورش" كان قد احتلها في حوالي 563 قبل الميلاد (المصدر السابق)، ربما طمعا في نحاسها الذي كانت السفن العمانية تجوب البحار حاملة إياه على متونها باتجاه الصين والعراق واليمن. (انظر: زياد، نقولا، "تطور الطرق البحرية"، ضمن مجلة "دراسات الخليج والجزيرة العربية"، العدد 4، ص:69).
وليتها مرت بجوار تاريخ "أوفير" (الاسم الأقدم لمحافظة ظفار)، لوجدت أن لُبانها قد شاع ذكره على ألسن اليونانيين والرومانيين كذلك (المصدر السابق).
إن الوصف الذي وصف به سليمان الندوي الأوضاع التي شهدها الخليج العربي بفضل ما شهدته بلدانه من ريادة التجارة بينها وبين الهند ومصر...وغيرها من البلدان "بالحضارة السامية" (انظر: "العلاقات التجارية بين العرب والهند"، مجلة "ثقافة الهند"، العدد 2، ص:102)، هذا الوصف، إنصافا، كان حظ عمان تحديدا منه، يبلغ نصيب الأسد؛ ذلك لامتداد نفوذها إلى مسافات بعيدة حتى سواحل شرق إفريقيا - غربا، وجنوب بلاد فارس والهند شرقا.
لقد كان الشعب العماني الأكثر اختلاطا بغيرهم من شعوب هذه الأقاليم، وفي وقت مبكر جدا من تاريخها الموغل في القدم؛ مما انعكس -إيجابا- على تركيبهم الديموغرافي والثقافي في آن معا (انظر: أبو عياتة، فتحي محمد، "سكان سلطنة عمان دراسة ديموغرافية"، ضمن مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية. المجلد 10، العدد 40).
عملت العناصر مارة الذكر مجتمعة على خلق ظاهرة "ديموغرافيا المؤامة" على أرض السلطنة، ولقد كانت عند الشروق؛ حيث تشرق الشمس أول ما تشرق عليها، قد سهرت طويلا على مشهد قدوم السفن التجارية من البصرة، فيتبادل العمانييون مع تجارها الصفقات لتنطلق، هذه السُّفُن مُجددا، بتحفها إلى سيراف، ثم منها إلى مسقط، ومنها مرة أخرى إلى الهند، ثم منها مرة تلو الأخرى إلى مسقط مجددا، فإلى عدن، فإلى الجزيرة فإلى القلزم.
لو أن التغريدة تلك كانت قد مرت قُرب الخارطة التاريخية والجغرافية للسلطنة، لعلها تمنت أن لم تكن قد وُجدت.
mohammed@alroya.net