العاطفة المعمارية والبعد الخامس

أ.د/ علي ثويني خبير معماريّ باليونسكو - السويد

 

يكمن الإبداع في العملية المعمارية حينما يتسامي المعمار بخامات البناء مجانسا بين الذاتي من خلال خوالج وبواطن  النفس والموضوعي من ثقافة المكان، وسطوة البيئات والوسائل. ويوجه محتوى العمل المعماري من أعماق فيض المعمار الفكري للناس الذين يمتعهم جمال وروح المنجز، و يبقى الشكل انعكاسا ماديا لمحتواه. واختلف القوم في وجوب أن يكون الشكل جذابا، أو نتاجا غير ذي قيمة  لحبكة وظيفية وجدوى وفائدة تجنى. وبذلك أمست  الممارسة الفنية في العمارة تعني نقل عواطف إنسانية.
قال الشاعر اليوناني (فاليري): (العمارة ليست إلا شكلا من أشكال محبة الناس). وتحضرني هنا عمارة تاج محل كذروة للتعبير عن المحبة كرسها (شاه جيهان) لزوجه (ممتاز) بجمال عمارة قبرها.
وللجمال ثلاثة تجليات أولها: الحسي أو المباشر الذي يصل إلى الإنسان من خلال الحواس الخمس، والثاني الجمال الفكري وهو ما يتسرب من خلال سمو الملكة العقلية ورقي الإدراك. أما الثالث فهو الجمال العاطفي الذي نحن بصدده ويأتي تأثيره عن طريق ما يتعلق بالشيء من معان، وما يثيره من عواطف وذكريات، كأن يرمز لمعنى أو أمر أو يذكر بأشخاص وأحداث، فيثير المشاعر، ويضعنا في حالة عاطفية (moods).
وهذا الجمال العاطفي ليس جزءًا من الشيء نفسه، ولا هو صفة فيه، وإنما هو متعلق ومرتبط به بما يصل الإنسان عن طريق العواطف، أي أن الإنسان هو الذي يتخيله ويفترض وجوده، بما تسبب رؤية الشيء من إثارة في دواخل الإنسان.
لقد خلق الله سبحانه المكان  قبل الإنسان، وصاغ الإنسان المكان بحسب حاجته. ورغم أن المكان والزمان عنصران متلازمان لا يفترقان، لكن المكان ثابت و الزمان متحرك، وهو في ثبوته واحتوائه على الحسيات المستقرة بما يدرك بالحواس إدراكا مباشرا, وهذا ما يجعل العمارة فنا للمكان على عكس الشعر والموسيقى الذي هو فن  للزمان الذي عادة ما يدركه الإنسان إدراكا  غير مباشر.
وتنامت الآصرة بين الإنسان والمكان حتى أصبح المكان واحدا من الأمور التي يخترقها الإنسان بالبحث بغية  التعمق في هذا المحسوس وتمام الإدراك. وثمة دراسات معمارية، عنيت بخصوصية المكان، واستحدث علم الطوبولوجيا (Topology).  
كما أعطي المكان بعدا  فلسفيا  فأصبح المكان (هـو ما يحل فيه الشيء أو ما يحوي ذلك الشيء ويحده ويفصله عن باقي الأشياء). كذلك تم تقسيم المكان إلى:المكان التصوري، والمكان الإدراكي الحسي، والمكان الفيزيائي، والمكان المطلق، وتداعى الأمر إلى الشغف بالمكان والحنين إليه، وقدسيته والتشبث به.  
والعاطفة الإنسانية في حب المكان، ظاهرة حضارية أكثر منها بدوية ويمكن أن نعد الإسلام دين حضري نابذ للبداوة،وبذلك دعى للعاطفة بين الإنسان والمكان.
ومحبة المكان ينشأ عادة من التعايش والألفة معه،  ونأخذ في ذلك وصفا للصوفي محيي الدين بن عربي: (أن للأمكنة في القلوب اللطيفة تأثير). ويصنف أنواع الأمكنة بقوله: (ثمة فرق بين الأمكنة والمدن، مدينة أكثر عمارتها الشهوات وبين مدينة أكثر عمارتها الآيات البينات).
ويمكن أن يتآصر الأمر في مفهوم المدينة الفاضلة، وهو سعي دائب للإنسان في تكريس المكارم.  
 ويسترسل الأمر الى التبصر في عالم الأبعاد وفلسفته، والتي وطأت في بعض النظريات العلمية الى الأربع وعشرين بعدا. وهي حالات تراكبت فيها المفاهيم بين الفلسفة والفيزياء والغيب (الباراسيكولوجيا). ونجد أن للممارسة الأخلاقية ونفحات الحس الإنساني وجود وتماس معها. فلو كان البعد الواحد يتعلق بالنقطة وحركتها في الخطوط والبعد الثاني هو الحاصل من الحركتين المتعامدتين لتلك النقطة، والثالث يكمن في عالم السمو والارتفاعات، وتكشفت لهم الحجوم والفراغات والتجسيم والمنظور الجمالي. ثم يسمو هذا الغنى في البعد الرابع المتضمن للزمن كما عند (أينشتاين) في نظريته النسبية، وندعوه الذاكرة التاريخية والارتباط بالماضي والتعلق بالسلف والشغف بالتراث.
ويقودنا إلى بعد خامس فحواه  قدرة المعمار في تجسد حالة مفعمة بشعور إنساني فياض بين الإنسان وبيئاته الثلاث الإجتماعية والطبيعية والسماوية. وحسبنا أنه اسمى بعد للعمارة يمكن إرتقاؤه.
ويقودنا هذا المفهوم إلى بحث البون بين مفهومي العمارة كفن وإدراك للجمال ووظائف وبين الهندسة كهياكل إنشائية وخامات بناء وأرقام وأسعار وتكاليف وحسابات مادية. ورغم اعتماد المعماري على الإنشاء كقيمة جوهرية والعلم كوسيلة لتحقيق الإنشاء،  فإن العمارة لم تشذ عن الفنون، ولا تزال تعد خير تجسيد لرهافة الحس وعمق الخيال وتحقيق المنفعة والمتانة والجمال. وهذا  يدخل في صلب مهمته الإنسانية ،و هذا المفهوم خير تعريف للعمارة في كل زمان ومكان
وبذلك فلا يمكن للمعمار أن يقلد رجل العلم لتحاشي حالة الإرباك العقلية.
وهو الذي يفهم العمارة بالبصيرة والإدراك  بما لا يفهمه العقل. وهكذا فإن الإنشاء والهندسة لهما مبرر، ولكن للعمارة معنى روحي عميق. وبالرغم من حضور الذكاء والعلم والخبرة ولكنها لا تتعدى الضرورة في توفر البصيرة والخيال والعواطف والمشاعر. وبذلك فإن الأعمال النفعية المحضة تخدمنا، ولكنها لا تحرك مشاعرنا أو تثير الإحساس الفني و الشاعري. وبذلك فإن مهمة العالم والإنشاء هو كشف الحقائق ومهمة المعمار تحقيق ذاته خلالها، ليعكس بحسه روح العصر الذي يعيشه.
ويمكن أن يكون العلم قد أسدى خدمة بأن للراحة النفسية أهمية في الراحة الجسمانية، وتأدية الوظائف الحيوية للبشر، واقترن الإبداع براحة البال والقناعة، وقال الناس (عندما تطيب النفوس تغني). وهكذا يمكن أن يكون التصميم المعماري سببا في سعادة الإنسان وإضفاء الانشراح على حياته. ويمكنها أيضا أن تكون سببا لبث الضيق والانقباض عليه. ولا يمكن أن يأخذ الجميع بالمقاس نفسه وتصمم للجميع البيوت النمطية نفسها والمواصفات ذاتها، وتطلى حيطانها بألوان موحدة. وهذا ما جعل الأنظمة الشمولية تنهار حينما ألغت هذا الجانب، ورامت توحيد الأذواق، وتجلى ذلك في العمائر.
إن العمارة ليست مجرد إنشاء وتأدية وظائف، وإن هناك (شيئا أخر)، وإن الإنشاء الجيد والوظيفية الملائمة لا تكفيان لعمل عمارة إنسانية..  فالعلوم والفنون وسائل تكمل وظيفة العامل النفسي، في الغاية الإبداعية. وهكذا تكامل المثلث للفعل البشري بتضافر العلم والفن والخيال.   ولا يمكن فصل العلوم ومخترعات مواد البناء عن العمارة، ولا يمكن الاعتماد على الجانب التقني لتلك المصنوعات دون التسخير الفني الذي يهبها روحا معاضدة للراحة للإنسان.
ويؤسف اليوم  بأن المجتمعات دخلت في حمى الأرقام وحيثيات الخطوط البيانية وسياقات الربح والخسارة. حتى أقحمت العمارة في دوامتها. ولنأخد مثالا البناء العمودي، الذي كان لغايات تقليل الصرف  على عمليات التموين بالمياه والمجاري والصرف الصحي والطرق وما إلى ذلك، وتناست التأثير السلبي على نفوس الناس. وقد ظهرت حديثا بحوث تؤكد الآثار النفسية والعاطفية السلبية على هؤلاء. ونضرب مثالا من التجربة الشيوعية التي مارسها طاغية رومانيا جاوشيسكو من باب الاقتصاد بالتمديدات، حينما بنى برج سكني لايتوفر على مرافق صحية ومطبخ لكل شقة، بما دفع السكان الهبوط إلى المرافق الجماعيه في الطابق الأرضي مرارا.
لم يدر في خلد الساسة والمعماريين بأن العمارة هي هندسة في جانبها المادي والرقمي، لكن يسبقه الجانب الروحي والأخلاقي والجمالي.
والعمارة هي في العادة ممارسة إبداعية للارتقاء إلى حياة أفضل، بينما الهندسة هي أسلوب وتقانة البناء و حساب كمي ثم ربحي، بينما  تبقى العمارة عملية مقياس نوعي.
لقد فقدت العمارة بعديها الرابع "الزمني"  والخامس "الإنساني" وروح الممارسة الأخلاقية. ومع الوقت تكرست حالة  من التوحش والانزواء والكآبة والقوقعة. وكانت النتائج أن الشارع لم يعد مصدر إشعاع حضاري وتربوي وجمالي، ولم تعد الأسواق والميادين مكان متعة، و لم تعد حجرات البيوت تحتفي بالسكينة، ولم يعد الحوش رئة الدار ومجلس العائلة. ونسمع يوميا أخبار عن خسائر بشرية بعد انهيار مباني الماديات والربح الخاطف في عدة بلدان. بيد أن الخاسر الوحيد فيها أرواح الأبرياء.
لقد انتقد المعماري المصري (حسن فتحي 1899-1989) تلك الظواهر ووجه هجومه ضد الأرقام، وتهكم واصفا: (يصمم بيتاً واحداً ويضيف الأصفار إلى اليمين فالبيت يتكرر بالآلاف وذلك في نظري خطأ فادح وغير إنساني). وبالنتيجة كانت الغلبة لأصحاب الأرقام وذوي المواهب الربحية، والمسبقين للمادة الفانية على الروح السرمدية.

تعليق عبر الفيس بوك