فرصة تاريخية أمام التيار السياسي المدني البحريني

 عبيدلي العبيدلي

وحدهم المتشائمون هم الذي ينفردون بتلك النظرة السوداوية التي تصر على أن ترى الأمور من زاوية مظلمة، وترفض أن تخلع نظارتها السوداء السميكة التي لا تستطيع أن ترى شيئا سوى اللون الأسود القاتم الذي يحيل رؤيتها السياسية، هي الأخرى إلى مساحات لونية قاتمة تحجب عنها رؤية البقع الرمادية، أو حتى ربما البيضاء، التي فيما نجحت في رؤيتها، فمن الطبيعي أن تسلك طريقا سياسيا مختلفا، وتتبنى برامج عمل وطني مغايرة عن تلك التي تتبناها.

في خضم هذه اللوحة السوداء التي لا يكف البعض عن الترويج لها في سوق العمل السياسية البحرينية، وربما العربية، بوسع القيادة التاريخية، التي تمتلك مقومات الريادة أن تنتشل القوى السياسية من مستنقع البأس القاتل، إلى يم التفاؤل الممتلئ بالحياة والحيوية المطلوبة في هذه المرحلة المعقدة من تاريخ الأمة العربية المعاصر، الذي لا يمكن للبحرين إلا أن تكون جزءا من مكوناته.

ينتقي هؤلاء المغرقون في يأسهم، حوادث متفرقة من هنا وهناك، ويعيدون سكبها في قالب جديد يحولها إلى سد منيع يقف حائلا أمام أية رؤية مستقبلية واقعية مشرقة، ويوقع العمل السياسي البحريني في دوامة يأس تجرده من مقومات الفعل الحقيقي، وتحشره في زاوية ضيقة يتوهم أنه لا يملك القدرة على الخروج منها. فتتحول خطواته، التي يفترض فيها أن تكون راسخة وقوية، إلى حركات مترنحة تحصره في مربع ضيق يتأرجح في مساحته المحدودة.

لا يملك أي محلل سياسي منصف أن ينكر أن المنطقة العربية تمر بمرحلة من أكثر مراحل تطورها التاريخي تعقيدا وتحديا لكل من يريد أن يكون واحدا من مكونات العمل السياسي العربي، وفي القلب منه البحريني. لكن الفرق الذي يميز القيادة التاريخية الأصيلة من تلك العارضة والمؤقتة، هي قدرتها الفائقة على إدارة دفة سفينة الحركة السياسية، وبالمهارة المطلوبة، في الأجواء المضطربة، وعند المنعطفات الحادة. حينها فقط يمكن التمييز بين ما يمكن أن نصفه بالغث من السمين. وعند هذه المرحلة تكتشف الجماهير الفرق الحقيقي بين المخلصين والمدعين، وبين الشرفاء والانتهازيين.

في خضم الواقع السياسي البحريني، لا يختلف اثنان في المعاناة الحقيقية التي يعيشها التيار السياسي المدني البحريني، وفي هذه المرحلة بالذات. فمن جانب هو يفتقد إلى الحضور الشرعي إلى أحد مكوناته الرئيسة وهي جمعية العمل الوطني الديمقراطي "وعد"، التي لم يعد الحكم بحلها يسمح لها بممارسة العمل السياسي العلني، ومن ثم فمثلث جمعيات التيار المدني البحريني، والتي هي بالإضافة إلى "وعد"، هناك جمعيتا "المنبر التقدمي" و"التجمع القومي"، يفتقد إلى ضلعه الثالث الذي لا يستطيع الاستغناء عنه، اللهم إلا إذا قرر هذا الضلع تهميش نفسه، وبقرار ذاتي من العملية السياسية البحرينية.

لكن مقابل ذلك التحدي، هناك لمن يريد أن يمارس عملا سياسيا مرهقا لكنه مثمر في الوقت ذاته، أن ينزع، كما أشرنا أعلاه نظارته السوداء المتشائمة، ويضع بدلا منها، أخرى، لا تتجاوز سوداوية المرحلة، لكنها ترفض أن ترضخ لشروطها، كي لا تقع فريسة سهلة في شباكها.

هذا الواقع الغاية في التعقيد، وفي التحدي أيضا، الذي يعيش تحت ضغوطه التيار السياسي المدني البحريني، بقدر ما يفرض شروط قاسية تفرزها الأوضاع السياسية التي تمر بها البحرين، بقدر ما يفتح طاقة ولو كانت مساحتها ضيقة، تبيح لهذا التيار أن ينهض، لكن في حلة جديدة، يقرأ الواقع السياسي من زاوية مختلفة تبيح له أن يكون رقما مهما في معادلة العمل السياسي البحريني القادمة.

الخطوة الأولى على طريق تحقيق الاستفادة القصوى من الفرصة التاريخية المتاحة هي استعادة الثقة بالنفس، والخروج من الحالة الكربلائية التي سور التيار السياسي المدني نفسه بها، وقبل مرغما أم طوعا الوقوع في أسرها. ففي غياب مثل تلك الثقة سيجد التيار السياسي المدني أن ما يشيده من قصر لبرامجه، إنما يبنيه فوق كثبان من الرمال التي لن تستطيع الصمود أمام أية هبة ريح مهما كانت ضعيفة.

بعد امتلاك الثقة، بصدق ودون أية مساحيق تخفي النفسية المنكسرة، وتخبئ النظرة السوداوية المنهزمة، سينجح هذا التيار في التقاط أنفاسه. حينها عليه، وقبل أن يخطو أية خطوة أخرى أن يرى نفسه عاريا أمام مرآة التحليل السياسي المنطلق من تشخيص الواقع الذاتي وقراءة المحيط الموضوعي بشكل متجرد من تشوهات الماضي، البعيد والقريب، الذي مسخ صورة مكونات هذا التيار، وجردها من ممارسة واجبها التاريخي في قيادة مسيرة العمل السياسي في البحرين.

مثل تلك النظرة الموضوعية ستكون كفيلة بإخراج مكونات هذا التيار من حالة القنوط التي شلت حركته، واستفادت منها قوى أخرى، ليس هنا مجال التعرض لها، وجردته من القيام بدوره الطبيعي في تطوير العمل السياسي في البحرين، وعلى نحو مواز المساهمة في تنمية المجتمع، وتطوير مسيرته من أجل بناء مجتمع بحريني سعيد يعيش فوق ترابه شعب حر.

ساذج من يتوهم أن مثل هذه النقلة لا تحتاج لأكثر من قرار، فليس القرار سوى الخطوة الأولى التي يعقبها الكثير من الجهود المرهقة الطويلة الأمد، التي بوسعها أن تنقل هذا التيار إلى الموقع الذي نشير له.

لكن لو تمعن التيار، بعد نزع نظاراته السوداء من فوق بصره، سيكتشف هو قبل الآخرين أن الظروف متى ما أحسن الاستفادة من عناصرها الإيجابية بوسعها أن تخلق الفرص، فما بالك عندما تكون تلك الفرص مواتية، من أجل العودة إلى صهوة حصان العمل السياسي، والإمساك بلجامه، كي يقود فارسه نحو الطريق الرئيسة الصحيحة، فلا يضيع في أزقتها الفرعية الجانبية، بعيدا عن هدف واضح ومسؤولية محددة. 

الفرصة سانحة، رغم قسوة الظروف، لكنها لا تملك رفاهية الانتظار، والخوف أشد الخوف أنها تضيع من بين يدي هذا التيار، كما ضاعت فرص أخرى كانت أكثر مواتية.