مقاربة سيوسيلوجية للحداثة

◄ ثمة فارق كبير بين التحديث كمتتالية نموذجية مثالية مرغوب فيها والتحديث كمتتالية متعينة وظاهرة اجتماعية وتاريخية تحققت بالفعل

علي الرئيسي

مصطلح الحداثة أو كلمة حداثة هو مصطلح يحمل مدلولات مختلفة عدا أنه مصطلح يكتنفه الغموض وهو مصطلح خلافي أيضاً. فهي ككلمة من المفترض أنها محايدة، لكن السياق الذي تستخدم فيه ليس كذلك. فعادة ما توضع في مقابل "تقليدي" وتصبح بالتالي تحمل مدلولات معيارية تعني أن الحديث أرقى من القديم. والحداثة تعني المشروع التحديثي ففي سياق الاستخدام العربي لهذا المصطلح تستخدم كلمة حداثة بهذا المعنى، وتطلق على المشروع التحديثي بأسره كواقع وأمل. وهذا كله نتيجة لارتباط الرؤية التحديثية بفكرة التقدم.

 والحداثة والتحديث وفقًا للاستخدام الشائع، ونظرًا إلى سياق تأسسها التاريخي في أوروبا أصبحت تختلط مع مفاهيم أخرى مثل التغريب والتحضر والتصنيع والتنمية والنمو. والحداثة كمفهوم وكمشروع حظيت باهتمام المشتغلين بالعلوم الاجتماعية، لذلك تشعب التعريف بها. ولكن الجميع اتخذ من عملية التمايز نقطة ارتكاز في دراسة المؤثرات التي تميز المجتعات الحديثة عن غيرها. فدرسوا التمايزات التي رافقت التحديث في المجتعات مثل ظهور طبقات جديدة أو مهن وأنماط وعلاقات ومفاهيم جديدة، وما ينتج عن هذا الحراك من آثار متعددة مثل التوترات والصراعات والآفات الاجتماعية. لذلك يركز كل اختصاص من اختصاصات العلوم الاجتماعية على جوانب محددة. فالاقتصاديون يتناولون التحديث من منظور دخول التقنية وأثر تطبيقها على الإنتاج والسيطرة على الموارد الطبيعية، وعلماء السياسة اهتموا بدراسة أثر التحديث في المجتمع لجهة التكيف واستيعاب الصراعات الجديدة الناشئة، ودور القوى والفئات الصاعدة، والمؤسسات المدنية الجديدة المستحدثة. وعلماء الاجتماع يدرسون الظاهرة من منظور المتغيرات والعلاقات والمفاهيم وأنماط العيش الثقافية.

ويشير سيمون تشوداك إلى أن مصطلح "التحديث" يعبر عن عملية الثغرة القائمة بين مستوى نمو المجتمع والصورة الأخرى الأكثر تقدمًا وحداثة، والتي تهدف إلى الدخول إلى مستويات أعلى من أنماط السلوك والعمل وطرق التفكير التي تعد أكثر حداثة وعصرية وأكثر عقلانية ورشدا وأكثر إنتاجا للربح، وعلى وجه العموم أكثر نفعا وفائدة. وعلى هذا فهو سعي للنجاح الذي حققه سابقاً مجتمع رائد أو قدوة. لذلك فهناك من يرى التحديث هو معطى جديد تمامًا يشكل قطيعة مع الماضي ومع المجتمع التقليدي بكل سماته وقيمه وآلياته. وهناك بالطبع أكثر من تعريف بدءا ممن يعتبر الاستنارة هو مشروع الحداثة، إلى من يعتبر التحديث هو في جوهره الدفاع عن عظمة الإنسان أو هو استخدام العقل، إلى من يعتبره قائمًا على استخدام التكنولوجيا والعلم. وفي هذا المضمار قدم أنطوني جيدنز، في كتابه نتائج الحداثة تأصيلا رائجا للحداثة باعتبارها مشروعا حضاريا يقوم على عدة أسس منها: الفردانية والعقلانية والوضعية، وهو يطرح النظرية الخطية عن مسيرة التقدم الإنساني، ويقصد بها أن التاريخ الإنساني يصعد من مرحلة إلى أخرى صعودا وارتقاء دائمًا، من المجتمع البسيط إلى مجتمع أكثر تعقيدا، مع أنه يرى إمكانية وجود تنوع أو تعدد في خط التطور بين نموذج اجتماعي وآخر، ما يجعل ملاحظة الاختلاف والتنوع والتعقيد بين المجتمعات أكثر وضوحا.

ويزعم د. عبد الوهاب المسيري أنّ ثمة خلط شديد بين مشروع التحديث، كمخطط ومشروع وأمل وبين التحديث كظاهرة تحققت في الواقع والفعل، أي أن ثمة فارقا كبيرا بين التحديث كمتتالية نموذجية مثالية مرغوب فيها والتحديث كمتتالية متعينة وظاهرة اجتماعية وتاريخية تحققت بالفعل. وهو يقصد إلى ما آلت إليه الحداثة الغربية وما أفرزته من ظواهر كالنازية والستالينية والإمبريالية. غير أن أحد أهم دعاة العقلانية المادية هابرماس في رده على ظاهرة مابعد الحداثة قال بأن مشروع الحداثة لم يكتمل بعد، وأن الجوانب السلبية العديدة التي ظهرت أثناء عملية التحديث إنما هي انحرافات وفشل في تحقيق كل وعود العقلانية المادية وإمكانات الإنسان. على كل إن المشروع التحديثي هو مشروع العقلانية المادية الذي يرى أن العالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره. وأن عقل الإنسان يحوي القدرات الكافية للقيام بعملية التفسير هذه ومراكمة المعرفة وتغيير الواقع في ضوء هذه المعرفة.

تعليق عبر الفيس بوك