عبيدلي العبيدلي
تواصل الدواوين السياسية في البحرين نقاشاتها حول أمرين: أولهما قرار جمعية المنبر التقدمي قرارها بالمشاركة في انتخابات المجلس النيابي القادمة، والآخر صحة قرار المشاركة فيها. لا شك أنّ مناقشة القضايا السياسية، وخاصة الاستراتيجية منها ظاهرة صحية إلى اللحظة التي تتجاوز فيها الفترة الزمنية التي تستحقها. حينها تنتقل المناقشة من صفة تبادل الرأي إلى خانة الاجترار.
وسوف نتوقف عند القضيّة الأولى، وهي إعلان "المنبر" عن عزمها على خوض انتخابات مجلس 2018. نسبة عالية ممن توجه اللوم، تأخذ على "المنبر" توقيت ذلك الإعلان، الذي تعتبره غير مناسب، حيث جاء بعد فترة قصيرة جدا من "حل جمعية (وعد) التي تعتبر حليفا استراتيجيا للمنبر، ورقما مهما في موازين قوى العمل السياسي البحريني. لن أخوض في تقويم مسألة التوقيت، فربما يكون لجمعية "المنبر" أسبابها التنظيمية، الداخلية والسياسية الخارجية التي أرغمتها على مثل ذلك القرار وفي ذلك الوقت تحديدا. لكن لنفترض أنّ القرار كان خاطئا، فلا ينبغي أن يكون ذلك سببا لتأزم العلاقة بين "وعد"، و"المنبر"، على وجه الخصوص، وبين أطراف العمل السياسي البحريني ممن تربطهم علاقة بشكل أو بآخر بالجهتين على وجه العموم. فالمطلوب اليوم، والقرار أصبح حقيقة لا يمكن التراجع عنها، التوقف عن حالة ما يمكن أن نطلق عليه "اجترار" المشكلة، ووصولها إلى مرحلة تصبح فيها عنصر تأزيم للعلاقات القائمة بين الطرفين، بدلا من توثيقها.
من جانب "المنبر"، هي مطالبة بتوضيح الأسباب الكامنة وراء اتخاذ القرار، ومن جانب المعارضين له، أو من آخذوا "المنبر" عليه، أن يسجلوا تحفظهم، ويسيروا نحو الأمام بما يعيد المياه إلى مجاريها، ويوثق اللحمة بين الأطراف التي يتشكل منها التيار السياسي المدني في البحرين.
وإذا ما اتفقنا على إدارة الظهر لذلك الخلاف، والانطلاق بنوايا حسنة وثقة متبادلة بين الطرفين الرئيسين في العلاقة وهما "وعد"، والمنبر"، فلا بد من اكتشاف مساحات واسعة التي تبيح الكثير من أنشطة العمل السياسي المشترك، خاصة إذا ما شارك في عملية لأم الجراح، قوى سياسية منظمة أخرى مثل "التجمع القومي"، وشخصيات وطنية غير منظمة تحظى باحترام الجمعيات الثلاث: "وعد" و"المنبر"، و"التجمع القومي" الذي، هو الآخر، ما يزال الشارع السياسي في انتظاره كي يحدد موقفه من تلك الانتخابات.
نجاح تلك التنظيمات الثلاثة في الوصول إلى حل مشترك يوقف نزيف اجترار موقف "المنبر"، لا يعني بلوغ نهاية الطريق، بل يضع قوى التيار السياسي المدني البحريني على بداية طريق جديدة من العمل السياسي في المرحلة القادمة، تحدد معالمه الرئيسة مجموعة من العوامل التي طرأت على ساحة العمل السياسي البحريني، خلال الفترة التي أعقبت انتخابات مجلس 2014، يمكن رصد الأهم بينها في النقاط التالية:
1. غياب رسمي لجمعيتين لهما موقعهما المهم في خارطة الانتخابات النيابية، وهما "وعد" و"الوفاق". ومن ثم فكيف سيتم نسج العلاقة مع عناصر هذين التنظيمين، بغض النظر عن موقفهما من انتخابات 2018. الأمر الذي يضع على من يقرر المشاركة البحث عن صيغة جديدة تنظم هذه العلاقة ضمن الأطر الدستورية والقانونية المعمول بها في مملكة البحرين. هذه الصيغة سيكون فيها الكثير من عناصر ما يمكن وضعه في خانة "الخروج عن المألوف".
2. حالة شد الحبال التي باتت تحكم العلاقة بين الجمعيات السياسية ودوائر الدولة ذات العلاقة، ومن ثمّ فما هي الآليات المطلوب البحث عنها واللجوء إليها لتخفيف حالة الاحتقان، بما يضمن سير الأمر دون أن يطرأ ما يمكن أن يعكر صفو مياهها.
3. سماء الوضع الإقليمي التي تلبدها أزمة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الخليجية - الخليجية، والتي لا يمكن إلغاؤها من معادلات العمل السياسي، خاصة إذا ما استمر تصاعد تلك الأزمة، ولم يتوصل الفرقاء إلى ما يزيل السحب السوداء من سماء تلك العلاقات.
المسألة الثانية التي تسيطر على دواوين العمل السياسي البحريني هي قضية المشاركة في انتخابات 2018 القادمة، أو مقاطعتها. مرة أخرى يأمل المواطن البحريني من القوى السياسية أن تنتقل من حالة "اجترار" القرار بالاكتفاء بطرحه في صيغة تساؤل، إلى مرحلة وضع النقاط على الحروف والخروج بقرار حاسم من قبل القوى السياسية ذات العلاقة، مأخوذا بعين الاعتبار كل الظروف التي استجدت خلال الأعوام الأربعة الماضية التي أعقبت انتخابات مجلس 2014.
مهم جدا المشاركة في تلك الانتخابات، لكن ما هو أهم منه هو ضرورة مبادرة من يدعو للمقاطعة، أو من يروج للمشاركة أن يخرج كل منهما ببرنامجه الخاص العملي القابل للتطبيق، كما سبق وأن أشرنا، ضمن الظروف القائمة ـ وموازين القوى التي تحكم ساحة العمل السياسي البحريني.
لم يعد الوقت يسمح بالانتظار والاستمرار في "اجترار" أحاديث الحديث عن "الأزمة"، و"صعوبة الظروف"، و"قسوة الواقع"، فجميعها عوامل واجهت، ومن الطبيعي أن تواجه أي عمل سياسي في أي بلد تتواجد فيه حركة سياسية منظمة أم غير منظمة.
الوقت لن يسامح الطرفين: من يدعو للمشاركة، ومن يروج للمقاطعة، كي يبادر كل منهما فيسارع إلى الخروج ببرنامج عمل يبرر موقفه، ويضع الصيغ السياسية والتنظيمية التي تؤهله كي يترك بصماته الإيجابية الملوسة على انتخابات 2018.
قد يتوهم البعض أن الوقت ما يزال مبكرا، لكن عقارب الزمن بدأت حركتها، وهي لا تملك إلا حركة واحدة هي نحو الأمام، فمن رابع المستحيلات إعادة تلك العقارب إلى الوراء. ومن سيحاول ذلك فهو الذي يصر على الاستمرار في اجترار أسباب المشاكل والتحديات، بدلا من التوصل إلى حلول عملية، قابلة للتطبيق، لها.
وفي نهاية المطاف، لا بد من الإشارة إلى أنّ حظر عمل جمعية، أو منعها من ممارسة أنشطتها، لا شك أنّه يعقد من طرق ممارسة أعضائها لنشاطهم السياسي، لكن هناك خيارات مبدعة أخرى لمن أراد الحضور في المشهد السياسي، وترك بصماته الإيجابية على حركته.
خطر أمراض الأزمات السياسية هي لجوء البعض نحو اجترارها، بدلا من البحث عن حلول من أجل اجتثاث جذور أسبابها.