قراءة نقديّة في كتاب الوَجْه..هكذا تكلَّمَ ريشهديشت

...
...
...

أمين دراوشة -  شاعر وناقد من فلسطين

 

يملك الشاعر محمد حلمي الريشة أدواته الشعرية، وصفات الشاعر الحر الذي لا يقيده قيد سواء على المستوى الحياتي الواقعي، أو عبر خياله الشعري الذي لا يكف يجذبنا للحاق به، وذاكرة يبدو أنها لا تنسى شيئًا.

أولا - عتبة العنوان والتأثر بنيتشه:
تقول الشاعرة مريم الإدريسي في تقديمها للكتاب، إنه من خلال كلماته الشعرية المركبة لغويًّا بحذق ومهارة، و"بنية مخارج صوتية هامسة بصهيل آسر، وبإيقاعات داخلية، نفسية، وعقلية، وتذوقية. هذا هو المتأمل، والفيلسوف الحكيم، والصوفي، والمتعبد في محراب الشعر واللغة!"(1).
في مؤلفه الجديد، يترك الشاعر الريشة كلماته لتتشكل من دون قصدية، وبفطرة نقية لا تشوبها شائبة، فجاء الكتاب يتضمن مجموعة من القصائد الشعرية النثرية، والشعر الياباني "الهايكو" و"التانكا"، والشذرات الفلسفية. ولا يخفى على القارئ تأثر الشاعر الريشة بالفيلسوف الألماني الشهير "فريدريك نيتشه" بشذراته الفلسفية العميقة التي تعبر عن جبروت الحياة، ومقاومة ما يعترض حياة الإنسان من عوائق، وبأسلوبه السحري المغري. ويظهر التأثير من عنوان الكتاب، فالعنوان الرئيس "الوجه" جاء مدعومًا بجملة "هكذا تكلّم ريشهديشت"، فالقارئ سيذهب بخيالة لكتاب نيتشه "هكذا تكلم زرادشت"، والذي غزا به عقول وقلوب القراء من كل قارات العالم.
والعنوان "علامة لغوية تتموقع في واجهة النص لتؤدي مجموعة وظائف تخص أنطولوجية النص ومحتواه وتداوله في إطار سسيو- ثقافي خاص بالمكتوب"(2).
 
إن له أهميته الكبيرة لأنه يشكل العتبة التي يدخل المتلقي إلى أجواء النص من خلاله. ومن النقاد الذين اشتغلوا على العنونة "جيرار جينيت"، الذي اعتبر أن النص "في الواقع لا يمكن معرفته وتسميته إلا بمناصه، فنادرًا ما يظهر النص عاريًا من عتبات لفظية أو بصرية، مثل: اسم الكاتب، والعنوان، والعنوان الفرعي، والإهداء، والاستهلال، وصفحة الغلاف..."(3).

واتفق الناقد سعيد يقطين مع "جينيت" في تصوّره للعتبات، ورأى "أن العتبات النصية توجد في العناوین، والعناوین الفرعیة، والمقدمات، والذیول والصور"(4)، وأسهب في شرحها عند تحدیده لأنواع التفاعل النصي. فهو يسمي النص، ويعرفه، ولذا فهو علامة سيميائية "تمارس التدليل، وتتموقع على الحد الفاصل من النص والعالم، لتصبح نقطة التقاطع الإستراتيجية التي يعبُر منها النص إلى العالم، والعالم إلى النص، لتنفي الحدود الفاصلة بينهما، ويجتاح كل منهما الآخر"(5).

يختار الكاتب العنوان الرئيس بشكل قصدي ليعبر عن النص دلاليًّا. فالعنوان هنا يعبّر بالرمز والإيحاء عن فكرة العمل الأدبي، وهو "نسق مهيمن على محتوى القصة أو قصدية النص ملخصة فيه، بحيث لا نشعر بالعنوان واضحًا جليًّا ملفوظًا في الداخل(6). ولهذا فهو جاء "تعبيرًا عن رؤية الخارج إلى الداخل وليس العكس"(7).

أمّا العنوان الداخلي، فهو "ما ورد داخل النص فنقل بلفظه، أو مرادفه إلى الخارج، وليس العكس، وبذلك يحمل العنوان دلالته التي لا تحتاج إلى قراءة مغايرة أخرى، أي أنها تصبح ذات دلالة ذات بعد رمزي واحد"(8).

وأفادت المعاجم العربية أن "العنوان" كلمة تشير إلى التعين كالاسم للشيء. وورد في "لسان العرب" لابن منظور "في باب العین وفي مادة "عَنَنَ": عنّ الشيء یَعن ویعُنُّ عنَنَا وعُنوانًا: ظهر أمامك وعَنَّ ویَعنُّ عنًا وعُنوانًا، واعتنّ: اعتَرضَ وعَرض. وعَننتُ الكتاب وأعننتُه، أي عرضته له وصرفته إلیه، وعَنَّ الكتاب یَعنهُ عنًّا وعنّنته: كعَنونَة وعَنونَته بمعنى واحد مشتق من المعنى"(9).

إن العنوان، "بوصفه ملتبسًا، هو تلك العلامة التي بها يفتتح الكتاب: من هنا يجد السؤال...- الشعري- نفسه مطروحًا، وأفق انتظار القراءة معينًا، والجواب مأمولًا من العنوان"(10). إن القارئ يجهل ما في داخل النص، وهو بحاجة لعنوان يبدد القليل من عدم اليقين، حيث تكون القراءة "هذه الرغبة في معرفة ما يسترعي الانتباه على الفور كحاجة للمعرفة وإمكانية لها (وبالتالي باهتمام)، مثارًا"(11).

وشبّه "جاك دريدا" العنوان "بالثريا التي تحتل بعدًا مكانيًّا مرتفعًا يمتزج لديه بمركزية الإشعاع على النص"(12). والعنوان أساس، ولا غنى عنه، لأنه يميز النص، "ويؤطره إذ يشار به إلى النص فيصبح كالدال على مدلوله حقيقيًّا كان أم تخيليًّا"(13). فهو الوساطة من أجل الدخول إلى البنية الدلالية للنص. وللعنوان وظائفه العديدة منها: وظيفة تحديد الكتاب، والوظيفة الوصفية، والإيحائية، والإغرائية. واستطاع الشاعر الريشة الاستفادة من هذه الوظائف كلها.

وأراد الشاعر من عنوانه "كتاب الوجه" القول إنه كتاب مفتوح وواضح، كما أن الوجه هو الصورة التي تؤثر بالإنسان، وتظل ملامحه مرسومة في عقولنا وقلوبنا، إنه نقيض القناع والزيف. وتظهر صورة الوجه في النص مبتسمة على الرغم من الحزن الساكن في القلوب، وآثاره الظاهرة.

وجاء غلاف الكتاب بعدة ألوان، فالخلفية بلون أخضر هادئ، تثير التأمل، وظل رجل (هو الشاعر) باللون الأبيض وسط اللون الأخضر كما يظهر من الملامح، وكتب اسم الشاعر باللون الأزرق رمز السماء الشاسعة والحرية اللامحدودة، كما أنه لون البحر المليء بالأسرار والغموض، وجاء العنوان باللون البنفسجي رمز الزهور والمحبة والهدايا الشعرية، أما جملة "هكذا تكلم ريشهديشت" فكتب باللون الأصفر المثير واللامع كما الذهب، ويدلل على الكنوز الشعرية في الكتاب.

لقد عانى الشعر المعاصر من الكثير من العقبات التي وقفت في وجهه، إلا أنه استطاع أن يفرض حضوره الطاغي على المشهد الشعري العربي. ولقد عبر الناقد والشاعر محمد بنيس عن ذلك بقوله: "يدافع الشعر عن طفولته اللانهاية فيما هو يستقصي حداثة أخرى بالشكوك العنيدة. وحداثة الشعر العربي معزولة حتمًا، بأفعال استبداد المغلق في مجتمع جريح، حيث الدم وحده يكاد ينفرد بالزّمن وأهله. فهل يمكن للشعر، بعد هذا، أن يدافع، مجددًا، عن طفولته؟ وكيف له أن يستقصي حداثة أخرى؟ وبأي عناد تبدأ الشُّكوك؟"(14).

إن شعر الريشة شعر حداثي، فقصائده تشعل الأسئلة، وتصارع النقيض، وتوحي بمغامرة الشاعر الذي لا يكف عن استنهاض الأمل، بيده المرتعشة التي تكتب وهي تنزّ ألمًا.
والكتابة، حسب محمد بنيس، لا تكتب عن شيء، بل تنكتب مع شيء. هي أثره، "في انفلات الحدود بين الداخل والخارج، بين الأدب والفكر، بين الشعر والنثر، بين السواد والبياض، تبحث الكتابة عن مقامها، إنها شفيع التجربة التي تنتهي لتبدأ، نازعة عنها كل نبويّة أو غنائية. حلزونية تكون ويتيمة تبقى"(15).  يتغلغل نيتشه في ثنايا سطور المقطوعات والشذرات، فالشاعر لا يأبه "للكلاب" التي تعوي ولا حتى للقافلة التي يسير فوقها، يقول:
"لَا شَأْنَ لِي بِتِلْكَ "الْكِلَابِ" الَّتِي تَنْبَحُ لِأَسْيَادِهَا فِي الْقَافِلَةِ الَّتِي تَسِيرُ تَحْتِي! شَأْنِي أَنْ أَجْلِسَ عَلَى قِمَّةِ جَبَلي لِأُشَاهِدَ جَنَازَاتِهِمْ بِنُعُوشِهَا المَرْفُوعَةِ عَلَى أَكْتَافِ النَّمِيمَةِ!(ص33). فهو ليس مهتمًّا بالشهرة، وحياكة المؤامرات والنميمة، بل يستكين على جبله متأملًا الكون، ويشاهد "الصغار" يحترقون بنار نميمتهم، ويسير بخطى واثقة بقاربه كي يصل إلى ما يبتغي، مقتحمًا المجهول في مغامرة شيقة وخطيرة، يقول:
"بُحَيْرَةُ الشَّاعِرِ ضَيِّقَةٌ..
قَارِبُهُ فِي أَعْمَاقِهَا..
مِجْذافُهُ لَا شَرِيكَ لَهُ..
رُؤْيَاهُ إِلَى حَيْثُ لَا يَرَى!"(ص41)
وكان رأي نيتشه بالكتابة الحقيقية أنها الكتابة الذي يكتبها صاحبها بدمه، وليس إلا هذه الطريقة ليعرف الكاتب أن الكتابة حياة، يقول الريشة: "يَبْدُو أَنَّ الشِّعْرَ الْإِبْدَاعِيَّ "الْعَتِيقَ" لَا يَبْلَى؛ لِأَنَّ الشَّاعِرَ لَا يَنْسِجُهُ مِنْ خُيُوطِ الْحَيَاةِ عَنْكَبُوتِيًّا، بَلْ مِنْ أَعْصَابِ الرُّوحِ، وَجُنَّةِ الْقَلْبِ!"(ص51)

فإذا كانت الكتابة بالدم هي الأصل، فالريشة يزيد بقوله إنه يكتب بأوتار الروح الدقيقة، وخفقات القلب السريعة. ويشبّه الريشة الشاعر بالمسيح؛ فالمسيح الذي مشى على صفحة الماء يشبه الشاعر الذي يمشي على وجه الماء بأصابع خياله المجنح. يقول:
"مَشَى المَسِيحُ عَلَى المَاءِ بِقَدَمَيْهِ !
يَمْشِي الشَّاعِرُ عَلَى المَاءِ-
بِأَصَابِعِ مُخَيَّلَتِهِ!"(ص52)

كما يكتب الشعر بالضوء على جناح فراشة، وهذا دلالة أن الشاعر يرى في الشعر النور الذي يضيء العتمة، وكونه يكتب على جناح فراشة فيحتاج إلى مشاعر مندفعة ومتدفقة منسابة كجدول ماء بخفة ورشاقة، يقول:
"الْقَصِيدَةُ لَيْسَتْ نَحْتًا فِي رُخَامٍ..
إِنَّهَا كِتَابَةٌ بِالضَّوْءِ
عَلَى جَنَاحِ فَرَاشَةٍ!"(صص 75-76)

وهو يماثل نيتشة بقوته وصموده أمام أرزاء الحياة، وقسوة القدر، يقول:
"حِينَ تُهْزَمُ قُوَايَ المَادِيَّةُ، أُقَاوِمُ بِقُوَايَ المَعْنَوِيَّةِ؛ هذِهِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ تُهْزَمَ أَبَدًا!"(ص57)
فالحياة أكبر من الجسد العليل والفاني، ولا يمكن مقاومتها إلا بالروح والقلب اللذين ينبع منهما الشعر الحق.

يبحث الشاعر الريشة عن قصيدته، وبحثه مترابط بسعيه الدؤوب لفهم الذات والعالم. ويعتبر محمد بنيس أن القصيدة والذات والعالم أمكنة تصطدم بينها لتفجر سؤال المعرفة الذي هو نقيض السكينة والرضا، "إن السؤال تدخّل عنيف في المعطى الذي لم يعد بديهيًّا، ولذلك فهو يتضمن، أساسًا، بذرة المتاه والاختلال والخروج صراحة على القواعد القبلية أو التصورات المتداولة. إنه الذهاب الآخر في جنون المستحيل. ولعل ما هيأ للمتاه هو اختيار البحث، شعريًّا، عن الذات والعالم. فالمكان الشعري موجّه لإستراتيجية البحث والسؤال"(16)، وتعاملي مع الشعر به قرّب مني رؤية مغايرةً للذات والعالم.  هذا البحث عن الذات والعالم شعريًّا يهب القصيدة استقلالها، فالشعر ما هو إلا فضاء لا محدود للحرية والقلق والسؤال.

إن الفعل الشامل والفاعل للشاعر في بحثه الذي لا يفتر عن القصيدة والذات والعالم، يجعله يعثر على ما سعى إليه في وضعية القيم ذاتها، وفي صدارتها قيمتا الحرية والافتتان. فهل وجد الشاعر الريشة حريته وافتتانه؟

يسكن الحزن الحياة، وتعجنها المرارة، وفجأة يظهر البرق، "فجأة ينفتح الشعر على حدود الخطر. وفي الإقامة على هذه الحدود يصبح البحث سؤالًا، ويكشف الشعر عن ضرورته. في أهوال الطريق يتصاحب الشاعر والصوفي، وفي وجهة الشعر يفترقان"(17).  فالشعر لا يمكن له أن يكون إضافة إلى الشهادة، "بل الشهادة شعريًّا على تجربة العبور من زمن إلى زمن، على الانتقال من لغة لا تُسمِّي إلى لغة تُسَمِّي"(18).

إن الشاعر محمد حلمي الريشة، الذي كتب الشعر بغزارة، وترجم الكثير من القصائد الشعرية الأجنبية، نثر بشعره آراءه المكثفة، والحكيمة، والعميقة، والساحرة، والروحية، واهتم بالهجاء الهادف، فالشعر"يقوّم الخطأ، ويحرّك السماء والأرض، والأرواح والآلهة"(19).  والشعر حسب لو- جي "يستطيع أن ينقذ حكوماتٍ متهاويةً وجيوشًا ضعيفة، ويمنحَ صوتًا لريح الفضيلة الإنسانية المحتضرة"(20).

ثانيا - جماليات "الهايكو" في "كتاب الوجه:"
يدخل الشاعر الريشة إلى الكوخ الجبلي لفن "الهايكو"، ويرسم لنا من خلال مقطوعاته الشعرية لوحات لغوية متمكنة، تثير الانفعال، وتلهب المشاعر. ففي كتابه الجديد هذا، اختار الشاعر فن "الهايكو" والمقطوعات الشعرية الصغيرة لتعزف لنا أجمل الألحان، ويتناول عبر معزوفاته مواضيع متنوعة: الحب، والوطن، وفلسفة الحياة والموت. فما هو شعر "الهايكو"؟ "الهايكو" هو "قصيدة من ثلاث أبيات، يحتوي الأول والأخير منها على خمسة من مقاطع الكلمات، والثاني على سبعة، أي إن القصيدة ككل تحوي سبعة عشر مقطعًا"(21).

ويبنى على لغة شعرية لها خصائصها المميزة، إذ يمتاز بالإيجاز، وبساطة الألفاظ، وهندسة المعاني في تراكيب أعمدتها الخيال والإيماءات وتكثيف اللغة. و"الهايكو" شعر ياباني، مصادر جماليته، كما يقول عبد الوهاب المسيري، نابعة من الموروث الديني الذي يختلط بالموروث الفلسفي، كعبادة "الشنتو"، وهي أقدم العبادات اليابانية، و"الطاوية"، وهي من أهم العبادات الصينية بعد "الكونفوشيوسية". وكلمة "طاو" تعني الطريق: "والطريق هو طريق الطبيعة، واتزان الإنسان مع عناصرها. وتفترض "الطاوية" أن ثمة عنصرين أساسين في الكون لا يتصارعان، وإنما يتفاعلان، أولهما هو الين: العنصر الأنثوي القابل الإيجابي، وثانيهما هو اليانج: العنصر الذكوري الرافض السالب. وعلى الرغم من اختلاف العنصرين فإن الإنسان لا يحقق السلام والتناسق إلا بأن يعيش في وئام مع كليهما، ويتبع الطريق، طريق الطبيعة"(22).

والمصدر الجمالي الثالث هو "بوذية زن التأملية"، وهي من مدارس "البوذية" التي تحاول الوصول إلى جوهر "البوذية"، ومن ثم إيصاله للجماهير، والجوهر "يستند إلى تجربة الاستنارة (بودى) التي وصل إليها "بوذا". وتؤكد "بوذية التأمل" العلاقة بين السيد والمريد، وبهذه الطريقة ترمي إلى إيقاظ "البوذا" الموجود داخل النفس ليعبّر عن تحقيق الذات من خلال العمل اليومي. ويمكن الوصول إلى الاستنارة من خلال ضبط النفس. وهدف "بوذية زن التأملية" هو الدخول إلى قلب الموضوع عن طريق الحدس، وليس عن طريق العقل. إن "بوذية زن" تحاول الوصول إلى قلب الأشياء الساكن، فالسكون هو أصدق تعبير عن الرؤية العميقة... فإنها حينما تتسع لتشمل الكون بأسره لا تضيق وحسب، بل تختفي كلية، بحيث يصبح الصمت أكثر بلاغة وإيضاحًا من الكلمات"(23).
وأصول "الهايكو" يقول المسيري أرستقراطية وشعبية في الوقت ذاته، وقام "باشو" بالجمع بين الموروثين. ونادى "باشو" مؤسس "الهايكو" الحقيقي إلى البحث عن روح الشعر في الصدق والإخلاص، لذا استعمل في قصائده أبسط الكلمات وأقصرها.

ثالثا - الحب والطبيعة والوطن:
يعبر شعر "الهايكو" أكثر ما يعبّر عن الحب والطبيعة والخير الكامن فيها، ويعبّر عما يرغب بوصف بسيط. يقول الشاعر الريشة:
"الْأَرْضُ عَطْشَى..
المَطَرُ يَغْلِي حُرِّيَّةً
فِي عُرُوقِ الْغَيْمِ!"(صص62-63)
في قصائده ثمة إشارة إلى أحد الفصول أو الشهور أو إحدى ساعات النهار كالظهيرة، الشروق... وإن بدا "الهايكو" سطحي المعنى إلا أنه يخفي في داخله معاني فلسفية كبيرة.

إن عناصر "الهايكو" في القصيدة مستمد من الطبيعة، وثمة ذكر للزمن؛ فالأرض متعطشة للماء، والغيم في انتظار الساعة الملائمة، ويحبّذ فيه استخدام الألفاظ المضارعة التي تومئ بالفاعلية، وحضور المشهد، فالفعل المضارع "يغلي" يوحي بالحركة والحماسة وما سيأتي، والقصيدة بسيطة ومباشرة. وإن عبّر غالبية شعر "الهايكو" عن الجمال والحب، إلا أنه لا يخلو من ملامح حزن، ولحظات تأمل في الحياة. يقول:
"المَسَاءُ يَهْبِطُ.. وَحِيدًا
الصَّبَاحُ يَطْلُعُ.. وَحِيدًا
أَنَا مَعَهُمَا أَبْدُو.. وَحِيدًا"(ص62)

إن الفعلين (يهبط، يطلع) تُوحيان إلى التناسق والتناغم، والصباح والمساء يشاركان الشاعر الشعور بالوحدة التي يحتاجها الشاعر ليتمعن في ثنايا النظام الكوني كي يكتب قصيدته.
ويقول في مقطوعة أخرى:
"الرِّيَاحُ الَّتِي تُسَيِّرُ السُّحُبَ؛
يُصِيبُهَا المَطَرُ
بِالسَّكِينَةِ!"(ص83)

تعبّر المقطوعة عن حالة التوازن، فدورة الطبيعة مستمرة، رياح تحرك السحب وتقودها في حركة دائبة، حتى يأتي الشتاء، فتكف الرياح عن المسير وتستكين في راحة، تاركة للمطر فرصة أن يكمل مهامه، ما يشعر القارئ بحالة الحركة والسكون والهدوء التي تلف عالمه ورضًا تحس به الكائنات جميعها. فها هو المطر يهبط بسلاسة من أثداء الغيوم التي تظهر وكأنها تصلي، وتنزل قطراتها لتلامس وجه الأرض الذي يشبه سجادة صلاة:
"تَتَوَضَّأُ الْغُيُومُ بِمَائِهَا المُحْمَرِّ..
تَنْحَنِي/ تَرْكَعُ/ تَسْجُدُ-
الْأَرْضُ المُقَدَّسَةُ سَجَّادَةُ صَلَاتِهَا!"(ص80)

في فن "الهايكو" لا يوجد استعارات ورموز، غير أن اللغة العربية تزخر بمفرداتها وتصويرها، لذلك لم يجد الشاعر العربي عند قيامه بكتابة "الهايكو" حرجًا من استخدام المجاز ليلائم "الهايكو" مع اللغة العربية.
وفي مقطوعة مبهرة، يقول الشاعر:
"أَنَّى تَوَجَّهْتُ بِوَجْهِي
تُتَابِعُنِي بِوَجْهِهَا-
زَهْرَةُ عَبَّادِ الشَّمْسِ!"(ص82)
تنتشي وتحلق زهرة عبّاد الشمس، وهي تراقب الشاعر بغبطة، وتشاركه فرحه، وكذلك الشاعر الذي يحس بالحرية والانسجام. يعبّر الشاعر في بعض مقطوعاته عن الألم الذي يلمّ به لما سارت عليه أوضاعه والظروف القاسية التي يحيا بها شعبه، فيَلوي عنق الصباح ليعبّر عن الألم بدلًا من الفرح والابتهاج، ويتدخل الندى ليلطف من الوجع، ويخفف طعم المرارة. يقول:
"نَدًى عَلَى أَوْرَاقِ الصَّبَاحِ..
النَّدَى أَوْرَاقُ الصَّبَاحِ-
يُكَفِّنُ بِرِفْقٍ وَلِيدَ الصَّبَاحِ!"(ص92)

ويتناول الشاعر في مقطوعاته الأوضاع المزرية التي يرزح تحتها الشعب العربي، فثورته التي انطلقت لتزيح الظلم، وتسحق الاستبداد، لم تكن سوى:
"زَهْرَةً بِلَاسْتِيكِيَّةً كَانَتْ
تِلْكَ الَّتِي حَطَّتْ عَلَيْهَا
نَحْلَةُ الرَّبِيعِ ا لْ عَ رَ بِ يِّ!"(ص61)

فبدلًا من نيل الحرية، جاءت نحلة الربيع العربي بالدم والتهجير. أما الانتهازي الذي يستغل الثورة لمصلحته الشخصية، فلا مانع لديه أن يسلّم الوطن للأعداء مقابل أن يحيا حياة مليئة بالدعة والرغد! يقول:
"يُقِيمُ فِي غُرْفَةٍ فُنْدُقِيَّةٍ فَاخِرَةٍ
بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ عُشَّهُ لِلْغِرْبَانِ-
طَائِرُ الحَبَارَى!"(ص81)
والهم الوطني يخيم على جزء كبير من الكتاب. يقول:
"شَقَائِقُ النُّعْمَانِ
تَحْتَ أَشْجَارِ الزَّيْتونِ؛
إِزْهَارُ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ!"(ص93)

إن مقاومة الشعب الفلسطيني، على الرغم من مرارة الخسارة والفقدان، لا تزال فتيّة وقادرة على النهوض دائمًا، غير آبهة بالأوضاع العربية السيئة، وتَخلّي أهلها وأصدقائها عنها. ولا يرتبط المكان في شعر الريشة ببنيته فقط، بل يسهم بشكل كبير في تشكيل أبعاده الدلالية؛ فهو يعبر عن الهوية الفلسطينية، والتاريخ، والقيم الروحية والأخلاقية، والأنا. فالقدس، مدينة السلام، التي غرقت في بحار من الحروب، وغطّاها الظلام الحالك، لا تزال تُطغّى بمعانيها الإيمانية. يقول الشاعر:
شَقَائِقُ النُّعْمَانِ
تَحْتَ أَشْجَارِ الزَّيْتونِ؛
إِزْهَارُ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ!"(ص83)

فالعربي والمسلم رغم الألم، والظلم الذي يتعرض له، ما أنفكّ يرى بالقدس مكان الصلاة والمحبة، وأنها الرابط التي يربطه في السماء، والمفتاح الذي سيفتح له أبواب الحرية والرضا. فهي، على الرغم من كل شيء، ستبقى رمز المحبة والسلام، وسيبقى قمرها ينير درب العرب والمسلمين، فالأشجار المباركة تغفو على مشارف القدس، واثقة من انتصار التاريخ الحقيقي على التاريخ المزيف. العلاقة بين الشاعر والأمكنة المتنوعة في فلسطين علاقة اتصال الروح والجسد، علاقة رومنتيكية، وكما تقول الباحثة غادة الإمام: هي "علاقة شاعرية تربطنا بهذه الأماكن تجعلنا نستشعر إزاءها بالألفة والحميمية، فهي التي تظل حية وباقية في ذاكرتنا"(24).
ويختم الشاعر كتابه بالحديث عن حبه الأبدي لوطنه فلسطين، وأنه باقٍ كما الوطن حتى بعد موته من خلال قصائده. يقول:
"ذَاتَ سَاعَةٍ؛
سَأَتْرُكُ مَقْعَدِي،
وَيَبْقَى قَصِيدِي.
يَا حِبْرَ وَطَنِي المُجَفَّفَ..
يَا وَرَقَهُ المُرَطَّبَ..
يَا نَشِيدَ أَنْشَادِي الْبَعِيدَ!"(ص101)

كما لاحظنا من خلال الدراسة، تُشيّد قصيدة "الهايكو" على الاقتضاب، وعدم الإسراف في اللغة، وحياكة اللحظة الإنسانية الشاعرة، "التي تتخذ من قوة العاطفة جسرًا مختصرًا تقيم عليه علاقات القصيدة المرتكزة على ما يشبه "الحبكة" الغنائية التي تتخذ من شعرية الكلمة جملة إيقاعية، وصَفَها عدد من النقاد بالعبقرية الشاعرة، التي تطرق أعمق الأفكار الوجدانية، بحسّ تمتزج فيه "الأنا" الشاعرة بالطبيعة "الذات" في صوتيات تختزن في عدد ألفاظها المحدود مساحات لغوية شاسعة التأويل، وفضاء للمتخيل الشعري"(25). وهذا ما يَهبُ شعر "الهايكو" التفرد والتميز عن غيره، ليكون اليوم الأكثر انتشارًا.

إن الكتاب مكتوب بعاطفة جياشة، فجاءت لوحاته الشعرية زاخرة بالحركة والحيوية والألوان المعبرة عما يختلج في وجدان الشاعر من قلق وألم وأمل وحب، وإن شعر الريشة لقادر على أخذنا في رحلات ممتعة إلى أعماق النفس، ومتاهات الخيال، فله تأثير الخمرة التي تجعل السعيد حزينًا والحزين سعيدًا! كما يقول "وو كياو".


الهوامش:
1- محمد حلمي الريشة: "كتاب الوجه- هكذا تكلّم ريشهدِيشت". رام الله، 2017م. ص 13.
2- خالد حسين: القصة القصيرة وظاهرة العنونة. مجلة الموقف الأدبي، دمشق: منشورات اتحاد كتاب العرب، 2006م، العدد 422.
3- عبد الحق بلعايد: عتبات "ج. جينيت من النص إلى المناص". ط1. الجزائر: منشورات الاختلاف. 2008م. ص 50.
4- ینظر: سعید یقطین: انفتاح النص الروائي- النص والسیاق. الدار البيضاء: منشورات المركز الثقافي العربي، ط2، 2001م، الصفحتان 96، 99.
5- خالد حسين: القصة القصيرة وظاهرة العنونة. مرجع سابق.
6- سلمان كاصد. عالم النص. بغداد: منشورات دار الكندي. ط1. 2003. ص 18.
7- سلمان كاصد. عالم النص. المرجع السابق، ص ؟
8- سلمان كاصد. عالم النص. المرجع السابق، ص 26.
9- أبو الفضل جمال الدین ابن منظور: لسان العرب، المجلد 4، مادة عنن من باب العین. بيروت: دار صادر للطباعة والنشر، 1997م، ص 315.
10- فانسون جوف: شعرية الرواية. ترجمة: لحسَن أحمامة. دمشق: منشورات دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر. ط1. 2012م. ص 23.
11- فانسون جوف: شعرية الرواية. المرجع السابق.
12- سلمان كاصد: عالم النص. مرجع سابق. ص 15.
13- سلمان كاصد: عالم النص.المرجع السابق، ص ؟
14- محمد بنيس: كتابة المحو. الدار البيضاء: منشورات دار توبقال للنشر. ط1. 1994م. من مقدمة الكتاب. ص 8.
15- محمد بنيس: كتابة المحو. المرجع السابق، ص 14.
16- محمد بنيس: كتابة المحو. المرجع السابق، ص 19.
17- محمد بنيس: كتابة المحو. المرجع السابق. ص 20.
18- محمد بنيس: كتابة المحو. المرجع السابق، ص 21.
19- توني بارنستون، وتشاو بينغ: فنّ الكتابة- تعاليم الشعراء الصّينيّين. ترجمة: عابد إسماعيل. دمشق: دار المدى للثقافة والنشر. ط1. 2004م. ص7.
20- توني بارنستون، وتشاو بينغ: فنّ الكتابة- تعاليم الشعراء الصّينيّين. المرجع السابق. ص 8.
21- عبد الوهاب المسيري: دراسات في الشعر. القاهرة: منشورات مكتبة القاهرة الدولية. ط1. 2006. ص 247.
2- عبد الوهاب المسيري: دراسات في الشعر. المرجع السابق. ص 249.
3- عبد الوهاب المسيري: دراسات في الشعر. المرجع السابق. ص 250.
5- غادة الإمام: غاستون باشلار- جماليات الصورة. بيروت: منشورات التنوير للطباعة والنشر. ط1. 2010م. ص 290.
6- محمد المرزوقي. صحيفة الرياض، 14 يوليو، 2013، العدد 16456.

تعليق عبر الفيس بوك