كُتُبُ السِّيَر الإباضيّة.. قراءة في أوراق النّدوة الدّوليّة الرّابعة

أ.د/ محمد بن قاسم ناصر بوحجام
رئيس جمعيّة التّراث، ولاية غرداية، الجزائر

 
نظّمت جمعيّة "جربة التّواصل" ندوتها السّنويّة: (النّدوة الدّوليّة الرّابعة حول كتب السّير الإباضيّة) تحت عنوان: "السّير والجوابات لعلماء وأئمّة عمان في عيون الـمُحْدَثين"  في نزل الأكروبول بمنطقة البحيرة (تونس العاصمة)، لمدة ثلاثة أيّام: الجمعة والسّبت والأحد:  13 ـــــ 15 من صفر 1439ه/03 ــــــ 05 من نوفمبر 2017م.. وفي أربع جلسات علميّة متتالية، وجلسة افتتاحيّة وأخرى ختاميّة.. حضر النّدوة؛ محاضرون ومشاركون ومستمعون من سلطنة عمان والجزائر وليبيا ومالي وبوركينا فاسو، بالإضافة إلى تونس.

ومن بين ما ورد في ديباجة ملخّصات النّدوة ما يأتي: "... وتروم أعمال هذه الدّورة الوصول إلى قراءات حداثيّة، تستشرفُ الخصائص الفكريّة والمنهجيّة لعوالم النّصوص في أنموذج هذا الكتاب، بما [أنه] هو واحد من أهمّ كتب السّير الإباضيّة، وتبحث في الكتابة التّاريخيّة عند العمانيّين ومؤثّراتها، وفي الدّور الذي تؤدّيه في تطوّر التّصوّرات والرّؤى حول تاريخ أهل عمان، من خلال سير أئمّتها، كلّ ذلك من منظور التّاريخ والتّأريخ، بما [أنّهما] عنصران معرفيان أساسيان لتكوين الموضوعيّة العلميّة في عصرنا الرّاهن.

وتفتح هذه الدّورة مختلف أبواب التّساؤل حول الفنّي والإيديولوجي والفكري.. وتدعو إلى إثارة إشكالات كثيرة، على مستوى المعنى والدّلالة واللّغة والذّات والمعرفة والرّؤية والأداة... من خلال قراءات واعية، تنفتح على الأحداث والرّؤى التّاريخيّة المختلفة، دون الخضوع لها، ومن خلال المراجعة ونبش المسكوت عنه؛ برؤية متسائلة، تنسجم مع إيقاعات العصر، وتستجيب لأهداف الأمّة".

ويكشف هذا النّصّ المسار الذي يريد منظّمو هذه النّدوة أن تستجيب له مشاركات المحاضرين والحاضرين، ويضع الأهداف المسطّرة والمنشودة منها. ويتبيّن لنا منه رغبة المعدّين لهذه النّدوة في التّركيز على إثارة الأسئلة والإشكالات التي تُستلْهَم وتُستنتَج من دراسة " السّير والجوابات"؛ إدراكًا منهم واعترافًا بأهميّة هذه السّير والجوابات، وفي الوقت نفسه يقرّون بأنّها في حاجة إلى إعادة نظر فيما نشر منها وما درس، ويرجونَ العمل على سبر أغوارها، واستثمارها، على ضوء الرّؤى والنّظرات الحديثة، ثمّ استشراف ما يمكن أن تضيفه هذه القراءات، بما يخدم البحث العلمي؛ فكرًا ومنهجًا.

هل تحقّق هذا الطّلب في هذه الدّورة؟ هل لبّى المشاركون طموح القائمين على النّدوة؟ هل وجدت السّير والجوابات طريقها إلى إثارة التّساؤلات وعرض الإشكالات التي تتضمّنها؟  هذا ما ننتظر الإجابه عنه من خلال الكتابات والقراءات التي يقدّمها الكتّاب والدّارسون عن هذه النّدوة، وهو ما نلتمسه ونطلبه منهم..
تناولت النّدوة المحاور الآتية:
المحور الأوّل: كتاب السّير والجوابات: المنبثق والمؤثّرات الحافّة.
المحور الثّاني: قراءات في المفاهيم من خلال نصوص السّير والجوابات (سياسة/ تشريع/ أدب/ تاريخ/ اقتصاد/ سوسيولوجيا/...)
المحور الثّالث: دور الأئمّة والفقهاء وأثرهم في الكتابة التّاريخيّة بعمان في القرون الهجريّة الأولى.
المحور الرّابع: الثّقافة الإباضية في ضوء كتاب السّير والجوابات.

ولنا ثلاث ملاحظات في قراءة هذه المحاور نسجلها هنا:
1)    اتّسمت بالشّمولية، بمعنى أوضح، إنّها استوعبت ما تضمّنته السّير والجوابات.
2)    السّير والجوابات بهذا العرض لمحاور النّدوة تثبت جدارتها لاتّخاذها معلمًا ومرجعًا للمذهب الإباضي: فكرًا وثقافة.
3)    لم تتمّكن النّدوة من تناول كلّ جزئيات هذه المحاور؛ لأسباب وعوامل..منها ضيق الوقت وغياب بعض المحاضرين..لكنّ الأمل معقود على العمل المستمر الذي يعقب النّدوة في مشروعات بحثيّة وحلقات نقاش، ومحاورات فكريّة ومنهجيّة..في أعمال علميّة تتواصل حتّى يستثمر محتوى  هذه السّير الجوابات استثمارًا جيّدًا...

وأضيف نقطة في هذا الصّدد، طلب أحد المحاضرين وضع قاموس للمصطلحات الإباضية لتيسير فهم الفكر الإباضي فهمًا صحيحًا.. أُجيَب بأن هناك كتابًا في مجلّدين، عنوانه: "معجم المصطلحات الإباضية" من إعداد جمعيّة التّراث لولاية غرداية، الجزائر. وطبع وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينية بسلطنة عمان..

لقد كانت النّدوة  ناجحة – والحمد لله – بما قدّمته من أفكار ورؤى ومطارحات، وما أثارته من نقاش علمي وفكري مقبول إلى حدّ كبير..وما استقطبته من كفاءات علميّة متميّزة، وجلبت إليها من جمهور مناصر لفكرة النّدوة، ومحبّ للمعرفة، ومشجّع على التّلاقي في ساحات العلم وفضاءاته، وشغوف بالاطّلاع على التّراث الفكري وخدمته واستثماره.. وهو الهدف المسطّر لهذه النّدوة العلميّة حول السّير الإباضيّة.

إنّ كتاب السّير والجوابات، تتوفّر بين طيّاته جوانب من تاريخ عمان. وكما تقول سيّدة إسماعيل كاشف هو: "أصدق من ينقض الزّيف، ويكمل النّقص، الذي ارتبط بالتّاريخ العماني، إمّا للجهل بتاريخه، أو لعدم الاكتراث به، أو للتّعصّب الأعمى ضدّه." (1)

إنّ كتاب "السّير والجوابات" الذي هو محور النّدوة الرّابعة  يحمل قيمة معرفيّة كبيرة، لأنّه يحتوي على معلومات أساسيّة للتّعريف بالفكر الإباضي في: العقيدة والفقه والأخلاق والتّاريخ والحضارة والاجتماع والسّياسة وغيرها، وقد سجّلت هذه المعلومات في القرون الهجريّة الأولى، أي في المراحل الأولى للتّأسيس للفكر الإباضي.. كما اتّخذ تسجيلُ هذه السّير أسلوبين أو طريقين: سبيل التّدوين والتّقرير وسبيل الإجابة على أسئلة أو إشكالات، أو معالجة ظواهر، أو تصحيح أخطاء، أو التّنبيه إلى أمور..الهدف من كلّ ذلك هو التّأسيس والتّأصيل والبناء والإعداد.

ومن هذا المنظور نقول إنّ اختيار هذه السّير والجوابات موضوعًا لهذه النّدوة اختيار صائب.. ما يثبت ذلك البحوث التي قدّمت في النّدوة، التي تناولت موضوعات مختلفة مستنبطة من أعماق هذا السّفر العظيم، ثمّ المناقشات الكبيرة والمعمّقة (والسّاخنة أحيانًا)، التي كانت عقب تقديم الأوراق البحثيّة، وما تبعها من محاورات خارج قاعة المحاضرات،، وما نتج عن كلّ ذلك من اقتراحات وأفكار لمزيد البحث في كتاب السّير والجوابات، وما صاحب ذلك من نقد علمي منهجي عميق (في كثير منه)، موجّهة في الدّرجة الأولى لجامعة السّير وشارحتها(وليس تحقيقها كما  نسب إليها ذلك بعض المعلّقين خطأ أو سوء فهم).

إنّ التّوصيات القليلة التي أفرزتها مجريات النّدوة بيّنت أهميّة هذه الدّورة، وأبرزت قيمة ما اقترح لها.. لذا دعت هذه التّوصياتُ إلى مواصلة العمل لإخراج السّير والجوابات في حلّة جديدة؛ شكلاً ومضمومًا، واستثمارها في أعمال علميّة هادفة، تخدم العلم و المعرفة، وتؤدّي ما اجتهد كاتبو تلك السّير إلى إبرازه، وتحقّق الأهداف المرسومة لندوة ( كتب السّير الإباضيّة).

مناقشات النّدوة والحوار الجاد، الذي دار في قاعة المحاضرات وخارجها.. بيّن أنّ العمل في هذه السّير في حاجة إلى نفس طويل، ومنهجيّة محكمة ومعمّقة، وينتظر فريقَ عمل متخصّصًا ومتمرّسًا متنوّعَ التّخصّصات، يعمل بمنهج الجماعيّة. وفي حاجة إلى مشروعات بحثيّة تنبثق من مضمون السّير والجوابات، من المعاني والمغازي والدّلالات التي تتضمّنها، ويا حبذّا لو يكون الإشراف عليها من مؤسّسات وهيئات وجمعيّات.
من ضمن ما أثير في النّدوة ما قامت به سيّدة إسماعيل كاشف، فقد رأى بعض المشاركين أنّ عملها ناقص وغير علمي (مع تحفّظي على هذا الحكم على إطلاقه). الملاحظات التي قدّمت هي:
(1)    ما تضمّنه الكتاب المنشور لا يساوي النّصف أو أقلّ ممّا عرف من السّير والجوابات..
(2)     بعض السّير والجوابات غير مضبوطة في نصوصها، بالمقارنة بينها وبين أصولها في النّسخ المخطوطة.
(3)     بعض السّير والجوابات مشكوك في نسبتها إلى أصحابهاـ كما وردت في الكتاب المطبوع.
(4)    للسّير والجوابات نسخ مخطوطة عديدة..ذكر منها الشّيخ أحمد بن سعود السّيّابي خمس نسخ موجودة في كلّ من مكتبة الشّيخ نور الدّين السّالمي بــ"بديّة " (سلطنة عمان)، مكتبة السّيّد محمد بن أحمد البوسعيدي بــ"السّيب " (سلطنة عمان)، وزارة التّراث والثّقافة، (سلطنة عمان)، مكتبة الإمام غالب بن علي الهنائي بـــ" الدّمام " (المملكة العربيّة السّعوديّة)..(نسيتُ مكان النّسخة الخامسة)..وذكر الأستاذ مصطفى بن محمد، ابن ديسو أنّ نسخة منها توجد في إحدى مكتبات وادي مزاب، الجزائر، وهي التي اعتمد عليها في بحثه الذي شارك به في هذه النّدوة، الموسوم بـــ "السّير العمانيّة: قراءة تحليليّة في محتواها وفي نسبتها إلى أصحابها".
(5)     ما تضمّنه كتاب السّير، بجزأيه لا يتعدّى القرن السّادس الهجري.. في حين إنّ السّير - بحسب ما ورد في النّسخ المخطوطة – تصل إلى القرن العاشر أو الحادي عشر الهجري.
(6)     جمّاع السّير والجوابات متعدّدون، وفي مختلف القرون. ما جعل الشّك يتطرّق إلى صحّتها؛ بالاستناد إلى ما نشر في الكتاب المطبوع.
(7)     كثير من الأمور التّقنيّة والشّكليّة التي ظهرت بها السّير والجوابات تبعث على الارتياب وعدم الاطمئنان إلى صحّتها.. ما يدعو إلى العمل على تدارك النّقائص والهنات في الكتاب المنشور.
هذه الملاحظات وغيرها تدعو إلى الإسراع في وضع خطّة محكمة لإعادة نشر السّير والجوابات بعد التّحقيق العلمي الكامل.. مع تسجيل أنّ سيّدة كاشف إسماعيل لم تقم بتحقيق السّير والجوابات، إنّما قامت بما دون ذلك، وهو الجمع والشّرح كما هو مدوّنٌ في غلاف الكتاب المطبوع.

كما يسجّل لهذه الدّورة من بين حسناتها تطوّر في البحوث المقدّمة وفي الحوار والمناقشات التي دارت في القاعة وخارجها، وفي عدد الحاضرين من المستمعين.

إنّ ما سجّلناه على النّدوة الرّابعة عدم تقيّد بعض المشاركين بموضوع النّدوة، وعدم الالتزام بخطّها، وعدم وعي رسالتها وأهدافها.. ما ينشد مراجعة اللّجنة العلميّة لمعايير قبول المشاركات؛ حتّى لا تنحرف النّدوة عن مسارها، ولا تحيد عن أهدافها.

وفي نظري وحسب تقويمي، فإنّ النّدوة لم تجب على كلّ الأسئلة التي عرضناها في بداية هذا المقال.. ما يعني أنّ الدّرب ما يزال طويلا أمام الدّارسين. إنّما يُحسبُ للنّدوة نَجاحًا، هو أنّها أثارت موضوع الاهتمام بالسّير والجوابات، والمعاهدة على مواصلة العمل لخدمتها خدمة تقدّم القيمة العلميّة والتّاريخية لها.
وتظلّ هذه النّدوة فرصة للقاء الإخوة الإباضيّة السّنوي، لعرض تراثهم ودراسته، والعمل على إخراجه ونشره، وتقديمه لأبنائهم وللعالم أجمع للإفادة منه.. فلابدّ من المحافظة على هذا التّجمّع العلمي والفكري والثّقافي، والعمل على تطويره وتقديم الأحسن والأجدى في كلّ دورة.. والله الهادي إلى سواء السبيل..
وفي النهاية أقول من وحي الندوة:


انْتَهَتْ نَدْوَةُ السِّيَــــرْ
                    عـــــادَ كُـلٌّ لِلـمُسْتَقَــــرْ
ظافرًا بالـزّاد الغَنِـي
                    لَاقِـــطًا غَــــالِي الـدُّرَرْ
فَعَليْـهِ اسْتِثْمَــارُهَـــا
                    في البُحــوثِ ولَا يَـــذَرْ
مِنْ جُهُودٍ، لَايَسْتَكيـ
                     ــنُ، فَفَرْضٌ أَنْ يَسْتَمِرْ
في الحِراكِ؛ دِراسَةً
                     وَانْكِبــابًا علَى الأَثَــــرْ
ليْسَت اللِّقاءَاتُ لِلْــــــ
                     عَرْض ِغَايةً، بَلْ مَـمَرْ
لِلنَّشاطِ الـمَصْحُوبِ بالسْـ
                     سَيْر فــي دَأْبٍ لِلظّفــرْ
بِالـجَديدِ في جَوْهَرِ الــ
                     ــعِلْمِ، مَا خَفِي أَوْ ظَهَرْ
فَعَلَيْنـــَا أَنْ نَقْتَــــــدِي
                     بِجهـــادِ منْ قَـــدْ غَبَـرْ
فَبِــذَا نَسْمُـــو لِلعُـــلَاَ
                    وَبِــذَا تَـــدْعُونَا السِّـــيَرْ
                                                            
المراجع والخوامش:
•    السّير والجوابات، الجزء الأوّل، جمع  وشرح  سيّدة إسماعيل كاشف، وزارة التّراث  القومي والثّقافة، سلطنة عمان، 1410ه/ 1989م، ص:16، 17.

تعليق عبر الفيس بوك