الرمزيّة في العِمارة بين الوسيلة والغاية

أ.د/ علي ثويني – خبير معماري باليونسكو – السويد

 

إذا صنفنا الإنسان "كائن عاقل شغوف بالرموز" فإن كل ما طوره من لغة وفنون، محض تراكمات "رمزانيّة"، فالمدينة انطلقت كفضاء يرمز إلى سطوة العدل وسلطة القانون وسياق الدين الذي دمغها بأن تكون"مدين\مدينه". والمسكن كيان مادي غرضه إيواء الإنسان وحمايته وحفظ نوعه، لكنه رمز للسكينة، والبيت للمبيت والحائط للإحاطة ..الخ.

والرمزية في العَمارة تأخذ منحى مختلف عن الفنون الأخرى فشكل المبنى لا يتشكل برغبة التعبير عن معان؛ بل بحاجة إلى منفعة مرتجاة، وينخرط بمؤثرات وظيفية وبيئية واقتصادية. فهو ليس رمزاً لعاطفة، بقدر تعبير عن حقيقه وحاجة وجدوى أصبحت رمزًا، ويشتمل على الأسباب والمبادئ التي وجدت مسلكها للأشكال المعمارية، ويحتمل التأويل بحسب طبقات الوعي.

فاﻟﻌﻣﺎرة ﻠﻐﺔ تحمل  ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن اﻟرﻣوز ﻳﻣﺗﻠك ﻛﻝ واﺣد ﻣﻧﻬﺎ ﻣﻌﻧﻰ أو ﻣﻌانٍ ، ﺗﺳﺗﻣد روﺣﻬﺎ وﻗﻳﻣﻬﺎ ﻣن الثقافة ﻧﻔﺳﻬﺎ، وتكرست ﻣن ﺧﻼﻝ ﻧوع اﻻﺳـﺗﻌﻣﺎﻝ واﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺗﻲ ﺗرﺑطها ﺑﺎﻟرﻣوز الثقافية. واﻟﻌﻣﺎرة ﺟـزء ﻣن اﻟﻧﺗﺎج اﻟﺣﺿﺎري ﻟﻠﻣﺟﺗﻣﻊ بما ﻳﺣﻣله من ﻣﻌﺎن دﻻﻟﻳﺔ ﺗﻌﺑر ﻋن واﻗﻌﻪ وحاجاته. والمشهد اﻟﻣﻌﻣﺎري  يمتلك ﺷﻔرات توحي بالتراكمات الزمنيّة التي رمزنا لها بـ(تراث\حداثة) وﺗُﻘﻳَّم وتُصنَّف بحسب الإدراك والتوجه.

وﺗﻧﻘﺳم اﻹﺷﺎرة اﻟﻣﻌﻣﺎرﻳّﺔ إﻟﻰ اﻟرﻣز الدال ﻋﻠﻰ ﺷﻲء ﻣﺎ ﻣﺗواﻓق ﻣﻌﻪ ﺑﻧوع اﻟﺑﻧﻳﺔ (ﻋﻼﻗـﺔ الأﺟـزاء)، وﻫـﻲ واﻗﻌﺔ ﻣدرﻛﺔ ﺷﻛﻠﻳﺎً، ﺗﺷـﻳر إﻟﻰ واﻗﻌﺔ ﻏﻳـر ﻣدرﻛﺔ، وﺗﺷﻣﻝ اﻟﺷﻛﻝ واﻟﻣﻐـزى واﻟﻣؤوﻝ واﻟﻣؤﺷر الدال ﻋﻠﻰ ﺷﻲء ﻣﺎ ﻧﺗﻳﺟﺔ أﻓﻛﺎر ﺳﺎﺑﻘﺔ.

ﻓﺎﻟﻣؤَّوﻝ ﻳﺣﺗﺎج إﻟﻰ ﺷﻔرة ﺣﺿﺎرﻳﺔ ﻟﻔﻬم اإﺷﺎرة ويشتمل المعنى واﻟﺷﻛﻝ. واإﺷﺎرات مصدرها رﻣـز مقصود وﻏﻳر ﻣﻘﺻود، وﻫﻧﺎك ﻧوع ﺛﺎﻟث ﻳدﻋﻰ اﻟﺗﺷﺑﻳﻪ اﻟﻛﺎﻣﻝ أو أﻳﻘوني، واﻟﺗﻲ ﺗﻣﺛله إﺷﺎرة ﺗدﻝ ﻋﻠﻰ ﺷﻲء ﻣﺗواﻓق مع  أﺟزاء ﻣﻧﻪ، ﻓﻳﻣـﺎ ﺗﻘﺳـم اﻟﻌﻣﺎرة ﺿمن اﻟﻧظﺎم اﻟﺗرﻣﻳزي إﻟﻰ ﺛﻼﺛﺔ ﻣﺳﺗوﻳﺎت: اﻟﻣﻌﺎﻧﻲ اﻟدﻻﻟﻳﺔ Semantic Meanings، والمعاني اﻟﺗرﻛﻳﺑﻳّﺔ Syntactic Meanings، واﻟﻌﻣﻠﻳﺔ الواقعيّة Pragmatic، ويعد نجاح عمارة (ما) معيارًا لواقعيتها في التعامل مع مجمل المعطيات الاجتماعية والطبيعية والثقافية؛ وهنا تتجلى العلاقة بين النظرية والتطبيق، حينما تستنبط النظرية أصلاً من خلال التطبيق.  

وثمة حقيقة أن الرمزيّة بالعَمارة ليست هدفاً وغاية، وإنما نتيجة. وثمة اقتضاب أو إسهاب لرمزية الأشكال في شروحات فلسفة الفنون وعلم الجمال، وترد في العَمارة من خلال تحليل المساقط والعناصر الشاقولية. وثمة تفاسير معقولة، لكن أطنب البعض وتمادى وشطح بعيداً. ونجد شروحات للأشكال وردت من العمائر القديمة، تحتاج إلى فك طلاسمها من خلال البحث التحليلي المقارن الواعي والواقعي.

وثمة ثلاثة نماذج كبرى للحضارات بحسب توجهاتها الفنية: (حضارات الصورة) ومنها الحضارة الأوروبية وأمريكا، و(حضارات الرمزية) مثل الحضارة الإسلامية، والشرقية كالهندية والصينية، و(حضارات الإيقاع) كالحضارة الإفريقية التي تتمتع بالأسطوريات والتصورات عن أصل العالم التي لا تخلو عن عبقرية تشكيلية، وهو ما ألهم فنانين مبدعين كبيكاسو وجياكوميتي.

وللبيئات سطوة وإملاء دائما، فنجد مثلاً في الرسومات الباقية في آثار بعض الحضارات الدارسة في أمريكا اللاتينية مثل البيرو بأن خطوطها جاءت على العموم مائلة لترمز فيها للمطر وسيل الماء وتستحث فيه الآلهة للإستسقاء. ويذهب بعض الباحثين إلى التفريق بين خطوط البيئات، فالزراعية منتجها الفني بخطوط مستقيمة ومضلعة بينما الرعوية الصحراوية والجبلية وكذلك البحرية مدورة وحلزونية وإنسيابية.

لقد اشترط الروماني فيتروفيوس (70ق.م\23م) أن يتوافر في المنشأ ثلاث: القوة والرصانة والفائدة العملية والتأثير الجمالي، واهتم بجدوى البعد الرمزي من خلال الجمال المعماري، وإدراك أن ثمة جمال حسي وجمال رمزي. حيث يضم العمل المعماري الجيد أسسًا تثير الحواس المباشرة "النسب، والشكل، والإيقاع، والمحورية، والخواص الظاهرية"، وأخرى رمزية كالصرحية، والغموض والزخارف والملمس واللون، التي تحرك مكامن شعورية مختلفة داخل نفس الإنسان.

وتمادى الغربيون بالرمزية في عمارة ما بعد المسيحية والعصور الوسطى وتصاعد خلال حقبة النهضة ولاسيما عند ألبرتي (1404-1472م)، حيث شغف الناس بالبعد الرمزي للعمائر المتعلقة بتوازن المسقط، والبساطة في الزخرفة والمعالجة الفنية، ولاسيما في العمائر الدينية. ونجد مثلا  هيمنة عنصر القبة في العمارة البيزنطية له مدلولات رمزية روحية أستلت من فلسفات شرقية في الشام والعراق، وربطت بين هيئة قبة البناء وقبة السماء، فأقحم العنصر بالمقدس، رغم أنه بدأ عنصرًا تسقيفيًا للفضاءات المدورة، أقدمه في حضارة جرمو(تقع جنوب كركوك في العراق) حوالي 5500 ق.م، وربما أقدم من ذلك عند الطيور التي بنت أعشاشها بهيئة مقببة.

أكدت العمارة القوطية على رمزية ومكانة الكنيسة في حبكة النسيج العمراني في الموقع والهيئة والهيبة. وجاءت عناصرها كالنوافذ البرمقية (روزاس) والزجاج الملون للنوافذ، والأعمدة الطائرة، بما يهب شعوراً بالرهبة الصرحية، رغم انبثاق هذا الطراز من العمارة الإسلامية الأندلسية، ولم يكن مرغوبًا به عند نصارى الجنوب وطُبِّق في وسط وشمال أوربا، ونعده يحمل حصافة عالية في الجمع بين الإنشاء والعمارة والمعالجات الفنية.

وربما استدركت "عصر النهضة" ذلك الإطناب غير المبرر بالرمزية في عالم البناء الذي يلزم التجرد من الإسراف والطيش، فجاءت عمارتها واقعية، وتجسدت في عدة مجالات في الفن والأدب والموسيقى والعمارة بما دعي جماعة الـمانريه (Mannerism (1520-1580)، وتعني النهجية أو الأسلوبية، ضمن النهج الواقعي لعمارة النهضة.

وقد تأثر رواد العمارة في القرن 18، ضمن المدرسة الفرنسية، وتشعب إنتاجها بالبعد الرمزي في الفن والأدب. ومن هذا الرعيل المعماري بولييه (Boullee) ولودو (Ledoux) ممن وهب الأشكال الهندسية المجردة كالدائرة والمربع معان رمزية.
وقد حضرت تلك الحقبة (التحليلية) لعمارة القرن العشرين أو (الحداثة)، التي سعت إلى إظهار مدلولات رمزية جديدة، لمحاولة إيجاد وصفة لملامح العمارة العالمية المشتركة، ولاسيما ضمن ماورد في بيان المعماريين الأمريكيين هيتشكوك (Hichcock )، وجونسون ( Johnson) الذي جاء على أثر معرض العمارة المعاصرة بمدينة نيويورك سنة 1932.

وفي عمارة مابعد الحداثة بعد العام 1960 طفحت سمات رمزية إحياء العناصر التراثية ضمن الحداثة، كما عند الأمريكي من أصل إيطالي روبرت فنتوري، حيث طرح أهمية القيم "الشعبية" في العمل المعماري، الذي يجب أن يكون بمثابة الرمز في الفراغ وليس مجرد شكل بدون معنى، كما عند المعاصرين، التي عدَّها مجرد ترجمة لبرنامج وظيفي ومتطلبات إنشائية. ووجد هذا التيار ضالته في  المنتج المعماري في البلدان العربية والإسلامية التي طفقت تبحث عن سمات رمزية مسترسلة من تراثها المعماري دون الحاجة إلى سبر روح العمارة التراثية بقدر تغشيتها برموز منها. ويمكن أن نعد عمائر مسقط وسلطنة عمان إحدى سمات هذا التيار.

ويروق لرهط من المستشرقين، إثبات أن  للرمزية اليونانية تأثير وسطوة على الفن الإسلامي، (ضمن سياقات المركزية الغربية)، وأن فكر إقليدس وأفلاطون وأرسطو اخترق الأشكال الهندسية ورمزيتها ابتداء من أواسط القرن الثامن الميلادي. علما أن اليونان بنت مشروعها حوالي القرن 7ق.م وهو موعد متأخر بحوالي 3000 عام بالمقارنة مع الريادات التي وجدت في العراق ومصر.

ولم تنساق عمارة المسلمين للهوس الرمزي، واقتربت من صلب العمارة كفن للجدوى يراد منه تحقيق غايات وظيفية، دون التهافت لإسباغ الرموز التي تجردها من حصافتها، وتدخلها بإطار أيقوني، رغم زعم بعض المستشرقين ومنهم "أوليغ ﮜرابار" بأن العَمارة الإسلامية "تزخر" بالمعاني والرموز والدلالات الغزيرة المختبئة في "الأشكال". وزعم أنه أول من "اكتشفها". وطرح تعريفا أساسيا بين الرمز (symbol)  وبين الإشارة (sign)، فالإشارة تشير إلى شيء (ما) أو إلى انطباع معين، بينما الرمز يعرّف الشيء ويوحي ضمنياً به لكنه (أي الرمز) لايصفه بإحاطة كما تفعل الإشارة، أو الصورة (image).

وثمة إشارات رامزة ساقها لنا الإيرانيان أردلان وبختيار (Ardalan-Bakhtyar) للمنظومة الهندسية في العَمارة الإسلامية، ولكن دون الخوض بتحليلات عميقة لمدلولات الشكل والرمز بحالة واقعية.  ولتوضيح مقاربة "ﮜرابار" نسلط الضوء على ثلاثة أشكال هندسية لمبانٍ يقال عنهاٍ "إسلامية". وهي: (الكعبة المشرفة)، و(قبَّة الصخرة) في القدس، و(تاج محل) في أكرا بالهند. فما هي الدلالات التي تجعلنا ندرك أن تلك المباني تنتمي للعمارة 'الإسلامية' أولا، وذاتيتها الرمزية، و ما هي الدلالات، أو المعاني التي تبثها، "إذا أغفلنا المعالجات الزخرفية فيها". فما صلة 'المكعب' بالإسلام، أو ارتباط القبّة المقدسية  بشكلها نصف الكروي غير المطابق للشكل البصليّ المتواتر بالعَمارة الإسلامية؟.

ولو افترضنا صلتها "بالوظيفة"، فما هي وظيفة المكعب بما يجعله 'إسلاميا' محضاً؟. أما معلم (قبّة الصخرة)؛ فهو مثير للجدل من الناحية الوظيفية، فهو بناء "صرحي" أقامه عبد الملك بن مروان عام 692م، لأسباب سياسيّة، حول صخرة يظن أنها كانت موطيء المعراج النبويّ الشريف، وبذلك فلا وظيفة 'إسلامية' تكتنفها كالمسجد للصلاة مثلاً، إنما هو بناء ذو دلالات إعتبارية رمزية!.

أما الأكثر إثارة للجدل فهو (تاج محل)، كونه ضريح لزوجة ملك مغولي مسلم بناه عام 1653. فما هي أهميته وظيفياً وكيف يخدم تعاليم الإسلام، وربما يخالفها ببذخها المفرط أو يثير إشكالية بناء الأضرحة المختلف بشأنها بين المذاهب. إذن فما الذي يجعل هذه الأشكال "إسلامية" أو تنسب إلى العَمارة الإسلامية'؟.

وإذا حللنا المعالم الثلاث فإن المربع هو المشترك الرمزي بينهم، وهو (نيندا) السومري المقدس، وطبق في كعبات الحضر وتدمر مثل معبد (شحيرو) ، وتجسد في الكعبة المشرقة، ونجده في أضرحة العتبات المقدسة في العراق وإيران، وفحواه مربع بنائي صرحي يقع وسط فراغ يخصص للطواف.

وربما جاءت قبّته الصغيرة بشكلها المتضام كتطبيق منمق، لكن دُوّرَ المربعُ هنا ليكون مثمنًا، وجاء تقليد لشكل كنيسة قديمة تدعى (الصعود) في فلسطين الآرامية. أما تاج محل، فهو مربع مقبب محاط بمصطبه توحي بمطاف. وقد استمد طرازه من الطراز العباسي من خلال  الأكتاف الآجرية المترادفة، والعقود والقبوات والقبة البصلية التي استرسلت من بغداد إلى أوسط آسيا من خلال الطراز التيموري بعدما نقل تيمورلنك أساطين البناء من بغداد إلى سمرقند حوالي 1406م. ثم جلب الطراز محمد بابر(1483-1530م) إلى الهند ومكث حتى اليوم. وطُبِّقَ هذا الطراز في العمارة التقليدية العُمانية التي يظن البعض أنها (مغولية)؛ لكن نظن أنها أقدم كثيرا، كون المغول متأخرين بالتواريخ، وصلات عُمان والعراق متجذِّرة.

تعليق عبر الفيس بوك