عزاء لم يكتمل

عبد المنعم محمد – مصر

 

الثانية عشرة ظهرًا، الشمس تظهر على استحياءٍ، وتختفي على استحياءٍ.
الميدان سماؤه غربية كسماوات أوربا، وأرضه شرقية كأراضينا.
طيور تحلق في السماء، حمائم تستشير نفسها أتنزل إلى الأرض؟ أم تبقى محلقة؟
باعة جائلون، أصوات تنادي على بضا عتها (باتنين ونص باتنين ونص)
الشحاذون والشحاذات من الأطفال يملؤون أرجاء الميدان، تداهمنا إحداهن كما يداهم الموت البشر (حاجة لله يا استاذ ربنا يخليها لك.)
وأنا أضحك وأبتسم، وهي تضرب وجهها في الأرض خجلاً.
أنفها الجميل يظهر في الظل أسرح فيه كما يسرح المتصوفون في ملكوت الله، صوت القطار الآتي من المدن الأخرى ينبه الرصيف لاستقبال العائدين من سفرهم حتى يتسنى لهم الخروج إلى الميدان ما بين (حاملاً حقيبته على كتفيه، وطاويًا الجريدة القويمة تحت إبطه)
تقف عربة شرطة على حانة الميدان يرفع سائقها يده مشيرًا إلي
-    تعال
أذهب على مضضٍ
-    هَويتك
أخرجها وأعطيها له، يتطلع فيها، ثم يتطلع فيِّ، فيعطني إياها أدسها في محفظتي ثم أدس محفظتي في جيبي، وأرجع إليها محمرَ الأذنين.
هيا بنا
-    لا
هيا بنا
-    لا
أتركها وأمشي، أتبرم كلصٍ يخاف القبض عليه ثم أستقر في " كازينو " بابه يطل على الميدان، سوره الحديدي يستقر على النيل فيه صالة طويلة، وصفان من الطاولات الخشبية مفروش’’ عليها فِراشة حمراء تتمركز عليها طفايات السجائر، على جانبي كل طاولة كرسيان. جلستُ يسار النيل أتطلع في عذوبته وفي القوارب الحائرة على سطحه، أشعلت سيجارةً.
رن هاتفي فظهرت كلمة (صغيرتي) على شاشته
-    ألو
-    أيوه
-    أنت فين يا ابني
-    أنا هنا في مكاننا المعتاد – تعالي
-    حاضر
تأتي مهرولة كما يهرول الحجيج في مسعى الصفا والمروة
     يشرئب عنقها من على باب (الكازينو)، وتلتفت يمينًا ويسارًا تبحث عني فتجدني.
تأتي كوردة ناضجة يكسي وجهها اللون الأحمر القاتم، تتنهد تنهيدةً يسمعها القاصي والداني ويجلجل صدى صوتها في أرجاء المكان أربت على يديها وتنظر في عيني.
-    (والله ما عنت عارفة أعمل معاك ايه انت هتفضل مجنني على طول كده)
-    أبتسم وأنظر في عينيها. (وحشتيني) يا صغيرتي
-    صغيرتك (ماشي).
نضحك وكأنها نكتة، أربت على يدها مرة أخرى، أواسيها في أبيها الذي فقدته وهي جنينٌ في بطن أمها، فتبكي.
-    أنت أبي الذي لم أفقده
-    وأنتِ حبيبتي التي لم أراها قط.

تعليق عبر الفيس بوك