الكلُّ يؤلّف في أمة لا تقرأ

يوسف شرقاوي - دمشق


في ظلّ الادّعاءات الثقافيّة الكامنة في زمننا هذا، والإيمان بكلِّ فكرةٍ يحملها كتاب مهما كان، لابدّ من تسليط الضوء على بعض النقاط المهمة، والتي أيضاً، لابدّ أن يلتفتَ إليها كل كاتب عربيّ حديث.
وعودة إلى عام 106 قبل الميلاد، لنتذكّر ما قاله شيشرون: "إنّها أوقاتٌ عصيبة، صار الكل يؤلّف الكتب".
وفي هذا الزمان العصيب انساق كلُّ (أدعياء الكتابة) إلى الأدب العربيّ فصاروا عبئاً عليه، بعد الميلاد بألفي عام، لقد ظنّ الجميع أنفسهم سواسية بالأدب، وهذا لا ضرر في بعض النواحي، أما في كتابة الأدب، فهذا مكمن النقص، إذ نرى كل كاتب حديث النشأة ناقداً وأديباً ولا قدوة له، برأي نفسه، حتى إذا ما قرأ كتاباً أو عدّة فصول من رواية؛ راوده الظنّ أنّ الأمر كما المنافسة، فكتب بضعة سطور ونشرها.
نحن بحاجة إلى أمة تقرأ، لا خلاف في هذا، والأمة القارئة - المؤمنة كل الإيمان بالتفاوت بين قارئ وآخر - هي التي تحمل فكراً عظيماً وثقافةً غنيّة، بينما الآن، نجد كل قارئ ناقداً، لا يبدي رأيه فحسب بل يقيّم الكاتب قبل الكتاب ونوع الأدب قبل محتواه، أو يؤمن بفكرةٍ خاطئة وجدها بين السطور، أو يتّخذ من كتابٍ فكري فيه سرب من الأغلاط، نافذةً لحديثه، صار القارئ اليوم يقرأ لهدف معيّن وهو كسب النعت الثقافي دون أدنى اهتمام بنشر الثقافة، وما زاد الطين بلّة، وجود عدة فئات في العالم الافتراضي منحوا كمّاً هائلاً من الاهتمام والشهرة لعددٍ كبير من الناس وعديمي الخبرة، ممّا أدى لانحدار في الأدب العربي الحديث.
الأدب، بصورة عامّة، منذ القدم، كان يتناول النفس البشرية بين سطوره، يحللها، يدخل طياتها، يفسرها، يناقش المشاكل ويطرح الحلول المثلى، وهذا كان أسمى أهداف الأديب بأدبه، في الوقت الحالي، قد انساق الأدب إلى أفكار ركيكة منمقة دون أي هدف، عشوائية فوضوية بتنسيق عبثي، ومن المهم هنا ذكر دور النشر الحديثة التي أعطت كافة التسهيلات لنشر كتاب دون الاطلاع عليه أو تدقيقه حتى، بشروط مسبقة، ومن خلال كتاب وكاتب إلى آخر، بات الأدب سلعة تجارية، وبسبب كثرته، غطى الأدبُ الركيك الأدبَ الغني الرتيب - الذي ينشره كتّابٌ اكتسبوا الخبرة وأجادوا القراءة قبل الكتابة وبحثوا في كل كتاب عن صدق الفكرة وحيثياتها بكافة حذافيرها - وإثر هذا انعدم الوجه الثقافي لفئة كاملة رأت أنه من الصعب طرح أفكارها عبر التطرق إلى كل النواحي في مجتمعها، في ظل وقتٍ عصيب كهذا يمرّ فيه الأدب.
في الأدب على وجه العموم، ذو الخبرة الأغنى يمنح ما لديه، فإن اكتسبت الفئة الأقل منه خبرة ما اكتسبه، نشرته، وهكذا دواليك، حتى نستطع القول أن قراءنا وكتّابنا سواسية، كمعاصرين حديثي النشأة، وللأسف كما أسلفت، صارت الثقافة حكراً لشخص دون آخر، وصارت الادّعاءات تشكل حيزاً كبيراً في المجمل، وهذا ما أودى بالأدب العربي الحديث إلى ما هو عليه اليوم.
نحن بحاجة إلى نقاد حازمين جادين، وجهتهم الأساسية إعادة الأدب العربي إلى ما كان عليه، وتقديم ندوات للكتاب الحديثين من فئة الشباب، تمدهم بالخبرة وأساليب النقاش الأدبي وكيفية تحليل الكلمات والنقد الصحيح، والنقطة الأهم، تمكينهم من القراءة الصحيحة للأدب الذي نحتاجه، التعمق بسطور الأدباء الراحلين الذين تركوا لنا كل الأجوبة، وبعد هذا تكون الموهبة قد نمت، والمحاولة والتجربة تُكسِب الصواب، فالأدباء قد أتلفوا آلاف الأوراق من أجل بضع سطور، وهذا خير دليل على أن الكاتبَ ناقدٌ لنفسه في البداية.
لابدّ من توجيه كافة القدرات لهذه الغاية، أن ينشر المثقف ثقافته، أن ينقد الناقد دون إطراء وابتذال، نقداً جازماً بنّاءً لغاية التحسين والتطوير، لا الشهرة، أن يكتب الناس عامةً والشباب خصوصاً لغاية إعادة الأدب إلى بؤرة اهتمام القراء، إذ نرى اليوم أنّ غالبيةً كبيرة قد انعدم اهتمامها بالأدب العربي ومقتت ما يُطرَح فيه.
فلنوجه الأقلام نحو هذه الغاية، ولنتخذ كافة السبل، ولا ضرر في الحزم والجزم، لنقرأ ونحلل ونفتش ونستمد الخبرة، ثم، إن كان الإيمان بالمقدرة على إنتاج أدب عربي على الجميع الالتفات إليه، لنكتب.

تعليق عبر الفيس بوك